شعار قسم مدونات

إسرائيل الصهيونية ليست الأبارتهايد الأفريقي!

تصاعد المقاومة وارتفاع بالعمليات التي استهدفت قوات الاحتلال جميع الصور من تصوير المتحدث العسكري باسم الجيش الإسرائيلي التي حولها للاستعمال الحلال لوسائل الإعلام
العقيدة الصهونية لا تعترف أصلا بالفلسطيني كبشر حتى تعير نظرها إلى ترف النضال الاجتماعي وغيره (الجيش الإسرائيلي)

تتوالى الأيام، وتتكثف الأحداث، لتجعل مما يجري على أرض غزة خصوصا وفلسطين عموما يعصف بفكرة الزمن نفسها، حتى لكأن الزلازل التي أصابت الأرض العام المنصرم، أصابت إحداها فكرة الزمن، فحررتها من إطارها الماضي، كما الحاضر، كما الآتي، لتغدو اللحظة الفلسطينية سيدة على الميقات، صاحبة سلطة حاكمة على الكثير من المجالات، السياسية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية وغيرها.

لقد شرع "الطوفان" الأبواب بكامل اتساعها لكافة النقاشات المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وفي وقت يُعلق البعض ساخرا على منجزه المتعلق بجعل هذه القضية عالمية، في مقابل هول المشهد في غزة، تُرسم -واقعا لا مجازا- ملامح جديدة لعالم ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ستفرض حاضرا ولاحقا انزياحا للنقاش العسكري بحد ذاته ومآلات الحرب على أرض الحدث، لصالح نقاشات أبعد في المدى، وأمتن في التأسيس، وأجدى في الأثر، خصوصا عند المقبلين الجدد على هذه القضية، والوافدين إليها بعد ردح من اللامبالاة السياسية التي أريد لهم أن يعيشوها، لصالح الاستغراق في الاستهلاك وحده.

وبغير إيغال في هذا الجانب من أثر "الطوفان"، يمكن حصر المسألة في هذا المقال لمناقشة ما استجد من مواقف وكتابات حول القضية الفلسطينية، كان آخرها بعد المرافعة التي أجرتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بغرض إثبات ارتكاب الكيان الصهيوني لإبادة جماعية. وما يهم المقال هنا ليس تسليط الضوء على أهمية هذه الخطوة، وإنما مناقشة ما سيق بعدها وقبلها من منطق ينادي بضرورة اتباع سنة جنوب أفريقيا في النضال الاجتماعي لأجل التحرير، وعدم اقتفاء النموذج الفييتنامي. وهذا المنطق، في جوهره، يستبطن عند بعض قائليه، وهم كثر وإن اختلفت تعبيراتهم، مبدأ الاعتراف بدولة الكيان كدولة أمر واقع، والتطبيع معها، ومباشرة النضال ضدها بوسائل لاعنفية، كي لا يبقي الصراع صراعا خارجيا لا يزعزع قوة الكيان ووجوده، بقدر ما يستثمر لتثبيت سلطة هنا أو مصادرة واقع هناك كما يقولون.

إسرائيل لا تشبه أي كيان سياسي آخر. ليست كحال جنوب أفريقيا التي كان البيض فيها أقلية إثنية لا قومية، تحكموا أمنيا في الدولة من خلال الأجهزة الحكومية، ولم يتحكموا فيها عسكريا من خلال جيش منظم. وبالتالي لم تكن المسألة عبارة عن صراع بين فصيلين إن جاز التعبير، بل أن المشهد كان أقرب إلى صورة "النخبة" التي تتحكم بمفاصل الدولة على المستوى الأمني والسياسي والعسكري

والمعضلة أن المقارنة بين حالة جنوب أفريقيا وحالة فلسطين كثرت في الآونة الأخيرة، ولو من منطق مغاير، للتدليل على عدم استعصاء المقاومات أمام الحالات الاستعمارية، وقدرتها على تحقيق مرادها ولو بعد حين. غير أن الفارق في الأصل بين الحالتين معتبر وكبير، ويبدو أنه بات من الضروري توضحيه والتوكيد عليه، بالدرجة التي يمكن الاستنتاج معها أن إسرائيل هي إسرائيل، الحالة الفريدة من نوعها، فوق سقف المقارنات، وإن تشابهت مع نموذج هنا وآخر هناك. فهي ليست كيانا استعماريا وفق التجربة التي عرفناها في القرنين الماضيين، بمعنى أن تأتي دولة أوروبية أم، وتبني مستوطنات في دولة ثانية بوصفها امتدادا لها، تستحكم فيها سياسيا، وتستغل مواردها، وتكون مستعدة للتخلي عنها عندما تكون خسائرها فيها أكثرمن مصالحها. وبمجرد أن تصبح العوائد أقل من الخسائر، تتركها لتعود للبر الأصلي الأم. هذا ينطبق تماما على حالة جنوب أفريقيا، بحيث أن الهولنديين أولا، ثم البريطانيين ثانيا، استعمروا هذه الدولة لتواجدها على خط التجارة الدولية، على الطريق نحو المستعمرات الآسيوية. غير أن أهميتها الاستراتيجية تضاءلت بعد شق قناة السويس، وبات ضررها أكثر من نفعها وفق التعبير الفقهي، ما جعل من مسألة التخلي عنها وإسقاط ورقتها في لحظة دولية مؤاتية (ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وما تبع ذلك من تغيرات شهدتها المنطقة) أمرا بديهيا، ولا سيما في ظل اختراع النموذج الإسرائيلي على خط القناة.

إسرائيل لا تشبه أي كيان سياسي آخر. ليست كحال جنوب أفريقيا التي كان البيض فيها أقلية إثنية لا قومية، تحكموا أمنيا في الدولة من خلال الأجهزة الحكومية، ولم يتحكموا فيها عسكريا من خلال جيش منظم. وبالتالي لم تكن المسألة عبارة عن صراع بين فصيلين إن جاز التعبير، بل أن المشهد كان أقرب إلى صورة "النخبة" التي تتحكم بمفاصل الدولة على المستوى الأمني والسياسي والعسكري. من هنا أمكن فهم التدرج في أساليب النضال ضد نظام الأبارتهايد، بحيث بدأ بالاعتماد على أسلوب الحوار مع الحكومة فقط، واستمر في ذلك قرابة نصف قرن، ثم انتقل إلى تصعيد المقاومة المدنية السلمية كالإضرابات وحملات التحدي والدعوة إلى العصيان المدني، ثم تبنى الكفاح المسلح  في مستهل الستينات من القرن الماضي، بالتزامن مع بذل الجهود على الساحة الدولية من أجل ممارسة ضغط  دولي على النظام عبر المقاطعة، وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات، إلى أن تم اللجوء إلى المفاوضات المباشرة، حيث حصلت بعدها الأكثرية في البلاد على حقوقها السياسية، وحافظت على وجود الأقليات، واندمج الجميع في إطار هوية وطنية، لا قومية ولا دينية.

المشهد إذا مختلف. صحيح أن إسرائيل هي استكمال واستمرار للكولونيالية الغربية، وصحيح أنها تعتنق التمييز العنصري في مبادئها وتمارسه في سياساتها، إلا أنها كيان سياسي مغاير عن التجارب الأخرى. ومقارعة العقيدة الصهيونية فيها التي تبني العمليات الاجتماعية بناء عبر مؤسسات التعليم والعائلة والجيش، لا يمكن أن تكون مجرد فعل نضال اجتماعي داخلي فلسطيني. لا يمكن مقايضة العقيدة الصهيونية إلا بخطر وجودي يشعر معه كل المجتمع الإسرائيلي بأنه أمام خيار إما غياب الأمان وخطر الموت، وإما التخلي عن هذه العقيدة وما يتأتى عنها.

هذه الآراء التي تفند عنجهية وغطرسة وخطر الصهيونيّة، ثم تدعو بعد التفنيد هذا كمحصلة إلى النضال الاجتماعي الداخلي، تذكر بما كتبه اليهودي مارسيليو سفيرسكي في كتابه "ما بعد إسرائيل". والكتاب جهد علمي في النقد الثقافي السياسي لتشكل الهويات الصهيونية في المجتمع الإسرائيلي، ويخلص إلى تجاوز الجهد السياسي وأفكار من قبيل حل الدولتين أو الدولة الواحدة لصالح الجهد الثقافي الذي من شأنه أن يخرج المجتمع الصهيوني من الهوية الصهيونية العنصرية إلى ما يوسمه "ما بعد إسرائيل"، حيث يتفكك النظام والهوية الصهيونية، من خلال انخراط اليهود الإسرائيليين في المؤسسات المنشقة عن الخطاب الصهيوني.

أهل غزة قبل "الطوفان" خرجوا في ما عرف وقتها بـ"مسيرات العودة"، ونظموا تظاهرات سلمية أسبوعية تطالب بفك الحصار عن القطاع. ثلاث سنوات من التظاهرات لم تقابل سوى بالرصاص الحي، ومزيد من العنجهية الإسرائيلية، راح ضحيتها 326 شهيد، وما يقارب العشرين ألف جريح

هو طرح ثقافي إذا للتخلص من البنية الاستعمارية الصهيونية، لكن من السهل اكتشاف رومنسيته وصعوبة تطبيقه، لاسيما بلحاظ أن المؤسسات المنشقة التي يعول عليها سفيرسكي لأجل تفكيك المشروع الصهيوني هي من بنات المشروع الصهيوني نفسه، ولا تشكل خطرا وجوديا على مصالحه. كما أن الفاعلين من الإسرائيليين المشاركين في تلك المؤسسات لن يتخلوا عن هوياتهم وصهيونيتهم وما يتلقونه من دولتهم من أجل مساواتهم مع الفلسطينيين، بل إن نضال هؤلاء سيغدو نضالا داخليا صهيونيا، وليس نضالا للتحرر من الصهيونية أو لتحرير الفلسطينيين منها.

وإذا كان الأمر بهذه الرومنسية حين يكون النقاش عن الفاعل في الداخل الإسرائيلي، فكيف سيكون عليه الحال مع الفلسطينيين المحكومين بأبشع السياسات التي تذلهم ولا تأبه بكل النظام العالمي وآرائه لتضطلع على آرائهم ونضالهم السلمي؟! ثم على فرض التسليم بواقعية تأثير النضال الاجتماعي في الداخل الفلسطيني، فهل هذا يعني اقتصار الفاعلين الفلسطينيّين على عرب الـ 48، ويتم في مقابل ذلك تناسي كل فلسطينيي الشتات، ومن هم على أرض غزة، وفي الضفة الغربية التي يعيش فيها الفلسطينيّون في كنتونات غير متصلة جغرافيا؟

جدير بالذكر في هذا الإطار أن أهل غزة قبل "الطوفان" خرجوا في ما عرف وقتها بـ"مسيرات العودة"، ونظموا تظاهرات سلمية أسبوعية تطالب بفك الحصار عن القطاع. ثلاث سنوات من التظاهرات لم تقابل سوى بالرصاص الحي، ومزيد من العنجهية الإسرائيلية، راح ضحيتها 326 شهيد، وما يقارب العشرين ألف جريح.

العقيدة الصهونية لا تعترف أصلا بالفلسطيني كبشر حتى تعير نظرها إلى ترف النضال الاجتماعي وغيره. والعالم لا يدير أذنا للقضية الفلسطينية إلا بعد حدث بحجم زلزال. هذا هو الواقع. الواقع الذي لا تصبح فيه القضية الفلسطينية قضية تحرر أو حرية أو مساواة، بل هي أولا وآخرا -في ظل غطرسة وعنجهية العقيدة الصهيونية- قضية حق في الوجود، سابق ولاحق لكل النقاشات الفكرية المتعلقة بالهوية والحرية ونظام الحكم وما شابه. لا يمكن مقاربة مسألة وجود بكليشيهات جميلة بالفعل، لكنها قطعا لا تؤتي ثمارا. وتغدو ثمارها على شاكلة كلمة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الأمم المتحدة: "إحمونا… لو عندك حيوان ما بتحميه"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.