شعار قسم مدونات

يسبق الدّمعة إلى عينيّ أمه!

EDITORS NOTE: Graphic content / Women tend to the sister (C) of Palestinian journalist Adel Zorob, who was killed overnight during Israeli bombardment, as she mourns his death in Rafah in the southern Gaza Strip on December 19, 2023 amid continuing battles between Israel and the militant group Hamas. (Photo by MOHAMMED ABED / AFP)
أقارب يواسون بعضهم بعد استشهاد ذويهم في غزة (الفرنسية)

كنت جنينا في بطن أمي عندما أصاب عيونها الرّمد لكثرة بكائها على شقيقها المعتقل في سجون تدمر بعد زيارتها الأولى له، فقد اعتقل طفلا في الثانوية قبل زواج أمي، لكن زيارتها الأولى له كانت أثناء حملها بي كبطن خامس في عائلة "التسع أولاد".

بعد دراستي في التربية والأمومة، علمت أثر الحزن والقلق الذي يصيب الأم الحامل على جنينها طوال حياته وربما هذا ما جعلني ميّالة للحزن والنكد، فقد تكرر الحال عندما كان طفلي جنينا في بطني، اعتقل سبعة من إخوتي، وفي كل مرة أطمئن على أحدهم يُعتقل آخر، فقضيت حملي قلقةً وخائفة ودائمة البكاء. وأيقنت أثر حزن الحامل على الجنين عند تشخيص إبني بالاكتئاب بعمر العاشرة، بعد خمس سنوات من البحث بين المختصين، عن "ما مشكلة إبني؟" حتى عملت الطبيبة النفسية على البحث في أعماق ظروف الحمل والرضاعة والطفولة الأولى.

عندما أتى نبأ استشهاد ابنها رشاد وبعده بشير، كانت صدمتي بهدوئها أكبر من صدمتي بالخبر، تردد الحمد لله، الحمد لله دون دمعة.

خرجت من منطقة الخطر وابتعدت عن احتمال الاعتقال، وعملت في المجال التربوي، فكان من أكثر ما يسألني عنه الأهل: هل أبكي حزني أمام طفلي؟ خاصة أنه كان الشائع أن تُظهر الأم ثباتها أمام أطفالها مهما كانت الصدمة، بحجة مدهم بالقوة.

هذا ما فعلته أمي أمامنا، فقد خرج خالي بعد أن أتم اثنتي عشرة سنة في السجن بحكم البراءة، وقطعت أمي عهدا ألا تبكي بعدها، وبالفعل عندما أتى نبأ استشهاد ابنها رشاد وبعده بشير، كانت صدمتي بهدوئها أكبر من صدمتي بالخبر، تردد الحمد لله، الحمد لله دون دمعة. لكن بعدها وبشكل مفاجئ ظهر على أمي التعب والكبر والشيب والمرض والسكري الذي لم يدخل عائلتنا ولا من أي جد، دخل إلى دم أمي كأول مصاب. ليتك بكيت ومنعتيه الدخول يا أمي.

ثم تبعتها خالاتي الواحدة تلو الأخرى بعد مجزرة البيضا، وأصيب الجميع بداء السكري بعد محاولات الثبات لمد من تبقى من الأبناء بالقوة، ولم يقتصر قهر الأمهات على مجزرة، وفقد واعتقال وتهجير،

بل على كل ما عايشه أبناء هذا الجيل، كان لهنّ مدعاة للبكاء والقهر، زلزال وإعصار وتضخم وفقر وحروب وهموم تتكاثر بالانشطار، كل هم ينجب ألفا ولا حيلة للأمهات سوى البكاء.

قبل أن أجيب على سؤال الأهل، أتذكرني أماً أبكي ما أشهده أمام أبنائي، يحضنني الأول ثم يلقي عبارات تضحكني "هلأ بتصيري بشعة يلا اضحكي"، والثاني المصاب بالوسواس القهري يُخيَّل إليه العالم بؤرة جراثيم حتى الماء الزلال يقرفه، ومع ذلك يمسح دموعي بأصابعه، ويجففها بملابسه ويعيد مسحها صامتا حتى أنتهي.

سيدنا عمر بن الخطاب، بكل ما أوتي من عزّة وشدة وحكمة وحق وقوة وثبات لم يمتنع عن البكاء لمّا احتاجه، وقد شهدت عليه الأمة كلها.

كيف لمثل هذه اللحظة ألا تُعاش؟ كيف تفوَّت؟ كيف أمنع عن نفسي تجربة حصيلة ما ربّيتُ من إنسانية وتعاطف؟

ايه نعم أبكي أمام أطفالي، وأخبرهم عن سبب بكائي وعن دورهم رجالا في المستقبل ليمنعوا الدمع عن عيون الأمهات، ويطعنون الحزن قبل أن يقترب من أفئدتهن، فيزيد بكائي وعيهم وإصرارهم على السعي.

رغم أني لا أرغب في الوصول إلى درجة خطيب الجمعة الذي أغضب أبي ذات مرة حين جعل حديثه في خطبة الجمعة كاملا عن بكاء عمر بن الخطاب في مواضع عدة من حياته، عاد أبي من الجامع يلومه: "وكأن عمر بعظمته لم يفعل سوى البكاء!".

كان أبناء تلك الآونة بحاجة لمن يخبرهم بأن البكاء ليس عيبا، ولا ضعف مرجلة، وهذا جميلُ ما أوصلته الخطبة، لكن ما لم توصله أيضا أن البكاء ليس أداتنا الوحيدة، بل هو مجرد محطة استراحة. فكيف لمثل عمر أن ينشغل بالبكاء وحده وهو أول من جهر بالإسلام، وأول من هاجر جهرا، ومن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لقيك الشيطان سالكا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجّك"، كما وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحقَّ على لسان عمر يقول به"، ويكفي أن بعد إسلامه أنزل الله من سورة الأنفال قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

هذا سيدنا عمر بن الخطاب، بكل ما أوتي من عزّة وشدة وحكمة وحق وقوة وثبات لم يمتنع عن البكاء لمّا احتاجه، وقد شهدت عليه الأمة كلها.

إذا تجاوز السابعة فليتبع البكاء تخطيط وعمل وهمّة وثبات، فالحياة لا يوقفها حزن ولا بكاء رغم أهميته في غسل ألمنا.

هل أبكي حزني أمام أطفالي؟

إن كان جنينا فلنحرص على وجود السند والداعم واللجوء للتخصص النفسي، فلم يعد في أيامنا المكلومة رفاهية، بل هو حاجة ملحّة تنقذ ما تبقى منا، ولتبتعد الحامل عن مصادر الألم والتوتر ما استطاعت لذلك سبيلا، ولا تخجل من طلب المساعدة بصوت عالٍ، لئلا تنجب ميّالا للحزن.

وإن كان عمر الطفل دون السابعة فلا بأس بقليل من البكاء دون عويل، وبلا ديمومة ومع سبب يستحق، إنه بحاجة ليعرف منّا ما الحزن وكيف نعبر عنه ونعيشه ثم نتجاوزه ونستمر بعده، ولا نسمح للجبن أن يدخل قلبه بإخافته بأسباب حزننا وبكانا، ولنقدم حسن الظن بالله والأمل بأثر الجهد المبذول.

وإذا تجاوز السابعة فليتبع البكاء تخطيط وعمل وهمّة وثبات، فالحياة لا يوقفها حزن ولا بكاء رغم أهميته في غسل ألمنا. أما بعد الحادية عشرة فقد وصل إدراكه مرحلة التفكير المجرد وصار حقا عليه أن يسبق الدمعة في الوصول إلى عينيّ أمه واستحالة الرمد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.