شعار قسم مدونات

متنزهات الدنيا.. جنان الأرض التي خلدها الأدب

نهر الأبلة الذي كان بالبصرة والأبلة أقدم من البصرة ونهر الأبلة حواليه الأشجار والمزارع وأنواع الأزهار (بيكسابي)

ذكر ياقوت في المعجم وغيره من علماء البلدان أن منتزهات الدنيا أربعة، هي أجمل ما يراه الناظر على الأرض، وهذه المنتزهات هي: غوطة دمشق ونهر الأبلة وصغد سمرقند وشعب بوان.

أما غوطة دمشق فيقال إنها أنزه بلاد الله، تحيط بها الجبال فتصب فيها تلك الجبال من كل ناحية فتسقي بساتينها وحقولها ومزارعها.

محيط الغوطة ضخم، تسير فيها فينتهي بصرك ولا تنتهي أشجارها، وتتجول فيها فتسقط عليك من أشجارها الثمار فتأكل ولا تبالي. والمقصود بالغوطة هو كل ما أحاط بدمشق من القرى الخضراء والمنتزهات المطمئنة. وقد ألف الأستاذ محمد كرد رحمه الله كتابا نفيسا عن الغوطة، ذكر فيه الكثير من تاريخها وذكرها في الشعر.

المنتزه الثاني من منتزهات الدنيا هو نهر الأبلة الذي كان بالبصرة، والأبلة أقدم من البصرة، ونهر الأبلة حواليه الأشجار والمزارع وأنواع الأزهار، ومبنية على ضفافه القصور والأبنية الجميلة.

والغوطة قد تسمى أيضا البريص، كما جاء في مدح حسان رضي الله عنه للغساسنة:

يسقون من ورد البريص عليهم .. بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقد يجعل الشعراء الغوطة غوطتين، إما لاستحسانهم تثنية المكان في الشعر، وإما لأنهم يقسمون الغوطة قسمين قسما شرقيا وقسما غربيا، ومن ذلك قول الشاعر:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها .. فلي بجنوب الغوطتين شجون

وما ذقت طعم الماء إلا استشفني .. إلى برد ماء النيربين حنين

المنتزه الثاني من منتزهات الدنيا هو نهر الأبلة الذي كان بالبصرة، والأبلة أقدم من البصرة، ونهر الأبلة حواليه الأشجار والمزارع وأنواع الأزهار، ومبنية على ضفافه القصور والأبنية الجميلة. يقول فيه ابن عيينة:

ويا حبذا نهر الابلة منظرا .. إذا مد فـي إبانه الماء أو جزر

ويا حسن تلك الجاريات إذا غدت .. مع الماء تجري مصعدات وتنحدر

ومما يروى أن الشاعر بكرا الحنفي مدح أبا دلف فأعطاه عشرة آلاف درهم فاشترى بها ضيعة على نهر الأبلة، ثم أراد أن يشتري ضيعة أخرى فجاءه مرة أخرى فقال:

بك ابتعت في نهر الأبلة ضيعة .. عليها قصير بالرخام مشيد

إلى جنبها أخت لها يعرضونها .. وعندك مال للهبات عتيد

(يريد أن يشتري الضيعة المجاورة لضيعته)، فأعطاه أبو دلف عشرة آلاف درهم، وقال له: "إن إلى جنب كل ضيعة ضيعة حتى الصين، فلا تأتني مرة أخرى تريد ضيعة فهذا مما لا يفنى".

المنتزه الثالث من منتزهات الدنيا هو صغد سمرقند، والصغد هذا هو قرى متصلة من الأشجار، تبدأ من سمرقند وتنتهي في بخارى، وكل ذلك واقع فيما يعرف الآن بأوزباكستان، والصغد هو اسم النهر الذي يروي هذه القرى ويسقيها.

يتميز هذا المتنزه عن الغوطة والأبلة بأن أشجاره لا تنقطع، إذا صعدت إلى مرتفع منه تجده أخضر فلا ترى الصخر، ولا تتبين لك القرية إذا مررت عليها لأنها مغطاة بالشجر الملتف، فإذا صعدت مرتفعا من مرتفعات الصغد، لن ترى أي فراغ فكل المكان أخضر زاهر تتقاذف منه النسائم والطيبات.

شعب بوان هذا كان في بلاد فارس، وهو متنزه تمتد خضرته من أرجان إلى النوبنذجان. وهو من بدائع الدنيا لما حوى من الأفنان والمياه المتدفقة وأنواع الأزهار وصنوف الثمار، وفيه الطيور والأنعام وغير ذلك من المخلوقات، وفيه أشجار عظيمة

قال ياقوت في معجمه إن الصغد مقداره في المسافة ثمانية أيام، تشتبك فيه الخضرة والبساتين والرياض وتحف به الأنهار الدائم جريها وترى الحياض في صدور رياضه وميادينه والخضرة والأشجار والزروع ممتدة على حافتيه ومن وراء الخضرة مزارع تكتنفها ومن وراء هذه المزارع مراعي البهائم والمواشي.

يقول الشاعر:

أبالصغد باس أن تعيرني جمل .. سفاها ومن أخلاق جارتنا الجهل

هم فاعلموا أصلي الذي منه منبتي .. على كل فرع في التراب له أصل

إذا أنت لم تحم القديم بحادث .. من المجد لم ينفعك ما كان من قبل

ويقول أيضا:

رسا بالصغد أصل بني أبينا .. وأفرعنا بمرو الشاهجان

وكم بالصغد لي من عم صدق .. وخال ماجد بالجوزجان

المتنزه الأخير من متنزهات الدنيا التي نص عليها البلدانيون هو شعب بوان.

شعب بوان هذا كان في بلاد فارس، وهو متنزه تمتد خضرته من أرجان إلى النوبنذجان. وهو من بدائع الدنيا لما حوى من الأفنان والمياه المتدفقة وأنواع الأزهار وصنوف الثمار، وفيه الطيور والأنعام وغير ذلك من المخلوقات، وفيه أشجار عظيمة جدا تجتمع تحتها الجماعات فتختار الجماعة شجرة وتنشد تحتها الأشعار فيطيب المجلس ويطول، وربما اختاروا لكل سمر شجرة يقررون أنهم سيجلسون تحتها في سمرهم القادم.

وقد روى بعض الأدباء أنه وجد شجرة من أشجار الدلب المعروفة في شعب بوان وقد حفر شاعر في جذعها قوله:

متى تبغني في شعب بوان تلقني .. لدى العين مشدود الركاب إلى الدلب

وأعطي وإخواني الفتوة حقها .. بما شئت من جد وما شئت من لعب

يدير علينا الكأس من لو رأيته .. بعينيك ما لمت المحب على الحب

هل يا ترى ما تزال هذه المتنزهات الأربعة على حالها كما ورد في الشعر والأدب؟

كانت أشجار شعب بوان سجلا حافلا بذكريات الأدباء، فكان الشعراء يحفرون على الشجر ما تجود بها قرائحهم وهو يتنزهون في شعب بوان، ومن ذلك ما ذكر المبرد من أنه وجد أبياتا على إحدى أشجار الشعب يقول صاحبها:

إذا أشرف المحزون من رأس تلعة .. على شعب بوان استراح من الكرب

وألهاه بطن كالحريرة مسه .. ومطرد يجري من البارد العذب

وطيب ثمار في رياض أريضة .. على قرب أغصان جناها على قرب

فبالله يا ريح الجنوب تحملي .. إلى أهل بغداد سلام فتى صب

وشعب بوان هذا هو المقصود في نونية المتنبي المشهورة:

مغاني الشعب طيبا في المغاني .. بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن الفتى العربي فيها .. غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها .. سليمان لسار بترجمان

إلى أن يقول:

إذا غنى الحمام الورق فيها .. أجابته أغانـي القيان

ومن بالشعب أحوج من حمام .. إذا غنى وناح إلى بيان

وقد يتقارب الوصفان جدا .. وموصوفاهما متباعدان

هل يا ترى ما تزال هذه المتنزهات الأربعة على حالها كما ورد في الشعر والأدب؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.