شعار قسم مدونات

كيف تتعافى المجتمعات من الثورات المهزومة؟

25 يناير.. ذكرى الثورة المصرية التي أكلت أبناءها
25 يناير.. ذكرى الثورة المصرية (وكالة الأنباء الأوروبية)

في رواية البؤساء، والتي رسم فيها فيكتور هوغو ملامح المجتمع الفرنسي خلال الفترة التي تلت هزيمة نابليون وفشل الثورة، ينعى الطفل غافروش الآمال الثورية، قائلا: في وقت سابق قتلنا ملك، وحاولنا أن نغير العالم بسرعة، لكننا الآن لدينا ملك آخر، وهو ليس أفضل من ذلك الذي قتلناه. هذه البلد، التي قاتلت من أجل الحرية، نتقاتل فيها الآن على لقمة الخبز، وكل ما أنجزناه بشأن المساواة هو أننا نتساوى في الموت!

المجتمعات التي تخرج من التجارب الثورية الفاشلة تدخل في حالة من الإحباط والتيه، ومن فقدان الثقة بالنفس، بل وفي القيم التي ثارت من أجلها، حالة التخبط هذه تغذيها وتستغلها القوى الاستبدادية من أجل إحكام السيطرة على المجتمع

ومما يروى عن الكاتب الأميركي أرنست همنغواي أنه في أعقاب انتصار الجنرال فرانسيسكو فرانكو وهزيمة معسكر الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، وهي الجبهة التي كان يقاتل معها متطوعا يقول: "إن أحلام الثوريين هي كالعملة التي أصابها التضخم، وإن الوعد بالتخلص من الديكتاتور مثل شيك بلا رصيد"، وهذا المعنى قريب مما ذكره الشاعر أمل دنقل، في قصيدته كلمات سبارتكوس الأخيرة، على لسان الثائر المشنوق:

لا تحلموا بعالمٍ سعيد

فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد!

وخلف كل ثائرٍ يموت: أحزان بلا جدوى

ودمعة سُدى!

إن المجتمعات التي تخرج من التجارب الثورية الفاشلة تدخل في حالة من الإحباط والتيه، ومن فقدان الثقة بالنفس، بل وفي القيم التي ثارت من أجلها، حالة التخبط هذه تغذيها وتستغلها القوى الاستبدادية من أجل إحكام السيطرة على المجتمع، ودفعه إلى الخضوع، وقتل أي رغبة داخله في التغيير، وهو ما فصّله الأكاديميان الرائدان في دراسات التحول الديمقراطي غييرمو أودونيل وفيليب شميتر في كتابهما المرجعي "التحول من الحكم الاستبدادي"، إذ أوضحا أن النظم السلطوية تسعى، بعد وصولها إلى السلطة في أعقاب فترات عدم الاستقرار الحاد، إلى دفع المجتمع بعيدا عن الشأن السياسي، إما بالقمع أو بالتلاعب الأيديولوجي، وتشجع الأفراد إلى الالتفات حصريا لشأنهم الخاص، وتشعرهم أنهم في حاجة إلى "التحرر من السياسة"، فيتناسى المواطنون انتماءاتهم الحزبية، ويتوقفون عن النشاط في المجال العام، وتقتصر ممارستهم لمواطنتهم على احترام وطاعة القوانين، والاحتفال بمنتخب بلادهم، وأحيانا التصويت في انتخابات شكلية، وحين تنجح الحكومات الاستبدادية في مسعاها، تصور حالة العزوف السياسي هذه أنها استعادة للسلم الاجتماعي وتأييد ضمني لسياساتها.

وفي الذكرى الثالثة عشر من ثورة يناير، لا تبدو حالة المجتمع المصري مختلفة عما سبق، فمع ثقل وطأة السلطوية القائمة، وتراجع مستوى الحريات العامة والسياسية، وتردي الأوضاع الاقتصادية، علاوة على التوترات الإقليمية الحادة على حدود مصر من كافة الجهات: الشرقية والغربية والجنوبية، لا تبدو ذكرى الثورة حدثا يستحق الاحتفاء، ولا تبدو قيما مثل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ملهمة للمصريين كما بدت خلال أيام الثورة الأولى، بل وربما أصبح الكثيرون قانعين أن هذا الواقع -على سوءاته- هو أقصى ما يمكن تحقيقه، أو أقصى ما نستحقه.

على الرغم من أن أحلامنا الثورية كانت "عملة متضخمة" بتعبير همنغواي، وأن ثورتنا قد "أكلها أبناؤها" قبل أن تأكلهم هي، إلا أن الحاجة إلى تعافي القوى المجتمعية في مصر من صدمة الثورة المنهزمة أصبح الآن ضرورة ملحة

وعلى الرغم من أن دوافع هذه الردة متفهمة، وعلى الرغم من أن أحلامنا الثورية كانت "عملة متضخمة" بتعبير همنغواي، وأن ثورتنا قد "أكلها أبناؤها" قبل أن تأكلهم هي، إلا أن الحاجة إلى تعافي القوى المجتمعية في مصر من صدمة الثورة المنهزمة أصبح الآن ضرورة ملحة، لأن أمورا جوهرية كثيرة باتت على المحك، فمستقبل مصر أصبح ملغوما، سواء بالنزيف في مصالحها الإقليمية، وأمنها القومي، أو بالديوان الخانقة وفوائدها المتراكمة، أو بالتبعات المجتمعية الجسيمة للانتهاكات الحقوقية المنهجية وواسعة النطاق، فضلا عن التحولات الكبيرة التي نشهدها حاليا على مستوى النظامين الإقليمي والدولي، والتي تتطلب فاعلية أكبر من الدولة المصرية، عوضا عن انكماشها داخل حدودها، وتبريرها لعجزها عن الفعل والتأثير بمصطلحات متهافتة مثل "الصبر الإستراتيجي"!

وهذا التعافي، بطبيعة الحال، لا يعني استحضار حالة ثورية، غابت شروطها الموضوعية، وليست هدفا في حد ذاتها، بل ببساطة تعني الانعتاق من حالة "العزوف السياسي" المفروضة قسرا، والخروج -ولو يسيرا- من أسر شؤوننا الخاصة للإسهام في المجال العام، وترميم ما تبقى من بنى سياسية واجتماعية متصدعة، وتجاوز حالة الفرقة والتشرذم، واستعادة العلاقات الصحية والثقة المتبادلة بين الأفراد والكيانات عبر الحواجز السياسية والأيديولوجية، والتخلص من حالة الاستسلام للسيء خوفا مما هو أسوأ، واستعادة القدرة على الأمل، واعتناق الأفكار والأحلام الكبيرة، ولنتذكر أن الثورة الفرنسية -على الرغم من انتكاساتها المتعددة- نجحت في استعادة رمزيتها وتحقيق الكثير من أحلامها، وأن إسبانيا، بعد فرانكو، استعادة ديمقراطيتها، وأجهضت محاولة انقلاب أخرى كادت تودي بالتجربة الديمقراطية الوليدة خلال أعوامها الأولى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.