شعار قسم مدونات

عبر البوسنة.. تاريخ في البلقان يلد حاضرا في فلسطين (8)

انضمام "إم 99" إلى ترسانة القنص القسامية يكشف عن وعي المقاومة بطبيعة الحرب غير النظامية التي تخوضها أمام العدو الإسرائيلي (الإعلام العسكري لكتائب القسام)
الصندوق الأسود للمقاومة يتمثل في الشبكة العنكبوتية من الأنفاق السرية التي بنتها حماس على مدار ما يقرب من سبع عشرة أعوام من الحصار (الإعلام العسكري لكتائب القسام)
  • الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
  • زيارة لتاريخ مسكوت عنه
  • أنفاق البوسنة وأنفاق غزة
  • رحلة على حافة قمة جبل إيجمان عبر خطوط قتال الصرب!

منذ السابع من شهر أكتوبر من العام الماضي 2023 وحتى ساعة كتابة هذه الكلمات، وقف العالم بشرقه وغربه بما في ذلك العالم العربي، مشدوها متفاجئا بالبطولة الأسطورية للمقاومة الفلسطينية في غزة إزاء محرقة غير مسبوقة ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد الإنسانية جمعاء، ممثلة في مليونين ونصف المليون من المدنيين الفلسطينيين العزل، والذين حوصروا على مدار السنوات السبع عشر الماضية.

وبخلاف الأداء القتالي المعجز لمقاتلي حماس والصمود ما بعد الأسطوري للحاضنة المدنية للمقاومة، فإن الصندوق الأسود للمقاومة يتمثل في الشبكة العنكبوتية من الأنفاق السرية التي بنتها حماس على مدار ما يقرب من سبع عشرة أعوام من الحصار. وبناء مثل هذه الشبكة التي توصف بأنها مدينة تحت المدينة تحت ضغوط هائلة من المحتل الإسرائيلي المحاصر، يمثل معجزة هندسية عسكرية تعكس إرادة وإيمانا من فولاذ.

لعل أقرب ما رأيته رؤي العين لأنفاق غزة تلك التي استخدمتها شخصيا مرارا خلال سنوات حرب البوسنة والتي حفرتها المقاومة البوسنية تحت حصار صربي ودولي عنيف استمر على مدار أربع سنوات ونصف السنة

ويخطأ من يقارن بين أنفاق غزة وبين الأنفاق التي أقامتها المقاومة الفيتنامية الشمالية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين أثناء حربها للمحتل الأميركي. فمن ناحية، وبناء على المعلومات المتاحة، تفوق أنفاق حماس أنفاق فيتنام بما يقرب من الضعف بالرغم من أن مساحة القطاع تبلغ 365 كلم مربع، في حين تصل مساحة فيتنام 158 ألف كلم مربع.

في الوقت ذاته، فإن القطاع محاصر بشكل شبه كامل منذ العام، 2006 على عكس فيتنام التي لم تكن محاصرة، وإنما كانت مفتوحة من جهتين يتم من خلالهما تزويد المقاومة بالعديد من أنظمة التسليح من الاتحاد السوفييتي وحلفائه بالإضافة إلى الصين.

ولعل أقرب ما رأيته رؤي العين لأنفاق غزة تلك التي استخدمتها شخصيا مرارا خلال سنوات حرب البوسنة والتي حفرتها المقاومة البوسنية تحت حصار صربي ودولي عنيف استمر على مدار أربع سنوات ونصف السنة، حيث سنوات حرب الإبادة التي شنت ضد مسلمي البوسنة بتواطؤ غربي وشرقي. ولعل حماس اقتبست فكرة الأنفاق من مسلمي البوسنة ولكن بعد أن طورتها بشكل هائل، وهو ما يؤكد على فكرة أن حركات المقاومة تتعلم من سابقاتها، وأحيانا تتفوق عليها.

وعلى مدار تغطيتي لحرب البوسنة طوال سنواتها الأربع، لم تحن لي الفرصة لكتابة هذا الجنب من تاريخ الحرب، حيث كانت أنفاق ساراييفو المحاصرة لا تقل في سريتها عن أنفاق غزة، وهو ما يحدوني أن أكتب قصة هذه الأنفاق الآن.

كنت أقف بباب المنزل حاملا أغراضي على ظهري، حتى ظهرت سيارة الشيخ عمر ذات الدفع الرباعي، وبجواره جلس عملاق يرتدى السواد وحول رأسه عصابة سوداء، وتتدلى لحية كثيفة شديدة السواد على صدره.

في منتصف شهر ديسمبر من العام 1993 كنت قد فرغت من مهمة عمل اضطرتني إلى الخروج من البوسنة إلى كرواتيا، وكان على أن أجد طريقا للعودة إلى البوسنة مرة ثانية، وهو الأمر الذي كان أقرب للمستحيل فى ذلك الوقت. فالصرب أغلقوا مطار ساراييفو بقصفهم المركز من مواقعهم الحاكمة للجبال المحيطة للمطار، كما قاموا بقطع الغالبية العظمى من الطرق البرية، فى حين تكفل الجليد الكثيف فى هذا الوقت من العام بقطع الطرق القليلة الأخرى التي لا يسيطر عليها الصرب.

جلست فى مقر إقامتي فى العاصمة الكرواتية زغرب أقلب الأفكار تارة، وتتقاذفنى هي تارة أخرى. وكلما أمعنت فى التفكير، كلما أحسست بأن العودة للبوسنة ميؤوس منها. وفجأة دق جرس الهاتف لكي أسمع صوتا محببا لنفسي، ألا وهو صوت الشيخ عمر باشيتش مفتي المسلمين فى جمهورية كرواتيا.

كنت قد تعرفت على الشيخ البوسنوى منذ فترة، أثناء اصطحاب شيباروفيتش وزير الخارجية الكرواتي له فى ذلك الوقت فى مهمة بتكليف من الرئيس فرانيو تودجمان إلى مصر للقاء رئيسها آنذاك حسنى مبارك كي يطلب منه الاعتراف باستقلال بلاده. وقد بعث الرئيس الكرواتي الشيخ عمر فى صحبة وزير الخارجية فى بادرة تؤكد على حسن العلاقات بين المسلمين فى بلاده وبين الحكومة.

سمعت صوت الشيخ عمر العميق على الهاتف، وهو يهنئني بمناسبة أظن الآن أنها كانت مطلع شهر رجب، ويدعوني إلى ليلة صلاة وذكر فى المسجد الكبير فى العاصمة زغرب، وقد كان.

انتحى بي الرجل جانبا وسألني عن أحوالي، فأعربت له عن الضرورة الملحة لعودتي إلى البوسنة، وقد تقطعت بي السبل بسبب الحصار الصربي. هون علي الرجل الذي يتحدث العربية بطلاقة، حيث تلقى تعليمه الثانوي والجامعي فى سوريا.

وفى نهاية السهرة، قال لي الشيخ عمر: "لا تحزن، إذا كنت ترغب فى العودة إلى البوسنة حقا، فإنني قادر بإذن الله على تدبير الرحلة، إلا أنه عليك أن تقرر من الآن مدى رغبتك فى ذلك، حيث إن الرحلة لا يفوق مشاقها، سوى خطورتها!".

لم أفهم مغزى كلمات الرجل، إلا أنى أكدت له رغبتي فى العودة بأي ثمن. اختتم الشيخ عمر حديثه معي قائلا: "على بركة الله، انتظرني غدا فى محل إقامتك الساعة 12 ظهرا".

حاولت عبثا أن أستفهم من الرجل السبيل إلى البوسنة، إلا أن الرجل قال لي بشكل قاطع: "لكل حادث حديث، ومن الأفضل لك ولنا ألا تعرف مقدما أي شيء عن الرحلة أو الطريق الذي سنقطعه". ظهيرة اليوم التالي، كنت أقف بباب المنزل حاملا أغراضي على ظهري، حتى ظهرت سيارة الشيخ عمر ذات الدفع الرباعي، وبجواره جلس عملاق يرتدى السواد وحول رأسه عصابة سوداء، وتتدلى لحية كثيفة شديدة السواد على صدره.

عرفني الشيخ عمر على العملاق بكنيته وكانت الـ “المدرس" وينطقونها هناك باللغة العربية. أدركت على الفور أن الكنية ليست سوى اسم حركي للرجل الذي اتضح أنه – هو الآخر – يتحدث العربية الفصحى أفضل منى، وذلك بالرغم من كونه بوسنويا. لقد كان واضحا أن الرحلة ستقتصر على كاتب السطور، وذلك العملاق، بالإضافة إلى رفيق له والسائق.

بعد ساعات من بدء الرحلة الطويلة، علمت أن اسمه الحقيقي كاظم، وأنه كان يعمل قبل الحرب مدرسا للعلوم الشرعية فى معهد ديني فى سراييفو، وهو السبب فى اسمه الحركي "المدرس"

على حافة الجبل

قبل أن أحتل مقعدي فى السيارة، أنتحى بي الشيخ عمر قائلا:" لولا ثقتنا المطلقة فيك، ما كنا سمحنا لك بهذه الرحلة، فما ستراه خلالها لم يره سوى بعض من كبار المسئولين البوسنويين، وبعض من المقاتلين الثقاة". كلمات الشيخ عمر أدهشتني، فما هذا الذي سأطلع عليه، والذي بدا سر الأسرار؟!

على طول الطريق، تعرفت شيئا فشيئا على ذلك العملاق الذي تميز بوجه ذو ملامح طفولية. فبعد دقائق استطعت أن أستشف من الحوار الدائر فى السيارة أن هذا العملاق الملقب بالـ "مدرس" ليس سوى أحد كبار القادة العسكريين البوسنويين المقربين من رئيس الجمهورية. أيضا، علمت أن الرجل ليس عسكريا محترفا، وإنما أحترف القتال عقب بدء الصرب عدوانهم على البوسنة.

بعد ساعات من بدء الرحلة الطويلة، علمت أن اسمه الحقيقي كاظم، وأنه كان يعمل قبل الحرب مدرسا للعلوم الشرعية فى معهد ديني فى سراييفو، وهو السبب فى اسمه الحركي "المدرس" وأن عربيته الفصحى، يرجع الفضل فيها لجامعة الأزهر التي تلقى فيها العلوم الشرعية.

على مدار السنوات التالية، كتب لي أن أتمتع بالقرب من هذا الرجل على فترات أعتبرها من أخصب فترات حياتي إنسانيا ومعرفيا. بعد ما يقرب من أربع ساعات كنا قد عبرنا جانبا من الحدود الجبلية غير المأهولة التي تفصل بين كرواتيا والبوسنة، وأصبحنا نضرب فى جبال البوسنة.

كان الليل قد أهل فيما بدا بستائر ثلجية صبغت بالسواد، فالرؤية شبه معدومة بسبب غياب القمر، بالإضافة إلى تشبع الجو برطوبة شديدة ناجمة عن الثلوج التي كانت تسقط بشكل متقطع. وكان الطريق الذي سلكه السائق الشاب وعرا وخطرا بشكل لا يصدقه عقل. ففي بعض الأحيان كان يضيق الطريق الجبلي حتى تكاد تلامس العجلتين فى الجانب الأيمن للسيارة حافة هاوية سحيقة القرار أسفل الجبل.

كنت فى بعض اللحظات أستشعر شعر رأسي يكاد يقف رعبا من المشهد الرهيب، وقد ساد السيارة صمت مطبق. فى بعض المرات، أضطر السائق أن يوقف محرك السيارة وأن يطفأ جميع الأنوار، حيث كان بالاستطاعة سماع أصوات بعيدة عرفت أنها أصوات صادرة عن نقاط صربية لا تبعد عنا سوى أمتار قليلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.