شعار قسم مدونات

عن النضال اللغوي وعقدة الفصاحة المسرحية (2)

سوق عكاظ
المسرحة نتيجة طبيعية لارتباط العربية الفصيحة بالثقافة العالية بالشعر والأدب وعالم الغناء (مواقع التواصل الإجتماعي)

تحدثنا الأسبوع الماضي عن أهمية النضال في سبيل سحب العربية الفصيحة المعاصرة إلى المجال الخاص، بدلا من الاستسلام إلى اللهجات المحلية التي تفرق ولا تجمع، وتزيد المسافة بين أبناء الأمة الواحدة لتجعلهم شيئا فشيئا أمما وشعوبا لا يجمعها جامع. وقلنا إن أكبر عقبة تواجه هذا "السحب" للعربية الفصيحة هو ما أسميناه بـ "مَسرَحَة" اللغة، وهو تحويل التخاطب بالفصيحة من كونه تخاطبا عفويا طبعيا إلى كونه فقرة تجب تأديتها ضمن مراسم رسمية.

المستمع قد لا يرى نفسه فيمن يكلمه، فهو يعطش الجيم أو ينطقها قاهرية. وهو يتدارك المخارج تداركا، أو لا يراعيها مطلقا.

إن تلك المسرحة نتيجة طبيعية لارتباط العربية الفصيحة بالثقافة العالية، بالشعر والأدب وعالم الغناء، بالخطابات الرسمية والبيانات السياسية، وبالحملات الانتخابية والإعلانات الثورية. وهي دليل على مكانة الإنسان الأكاديمية والعلمية بل طبقته الاجتماعية، فنحن نميز في بلادنا بين الأشخاص بناء على لهجاتهم، فتلك اللهجة لهجة الفلاحين، وتلك للبدو، وهذه لأهل المدينة شمالا، وتلك لأهلها جنوبا، فالإنسان بطبعه انطباعي، أي تطبع الأعراض في عقله معاني بالتكرار، ولذلك ارتبطت لدينا اللغة الفصيحة بكبار أساتذة الجامعات، والمثقفين على اختلاف طبقاتهم، وارتبطت بأئمة المساجد والعلماء وطلاب العلم. وارتبطت بمقدمي نشرات الأخبار ومذيعي محطات المذياع العتيقة.

تلك الشخصيات كلها، وغيرها ممن يستحضرهم ذهنك الآن، يتفاعل معهم الناس في إطار أدائي غالبا، أقصد بالإطار الأدائي أن جزءا لا يتجزأ من تفاعلهم مع العامة يحتوي مقدارا لا بأس به من الأداء الصوتي واللغوي الخاص. فالأستاذ والإمام والعالم والمذيع محتاج إلى لفت انتباه من يتحدث معه، فيرفع الصوت ويخفضه بناء على تركيز الفكرة، ويحرك أطرافه متناسبة معها، وربما يتلو من الشعر شواهد لفكرته فيخالج كلامه النغم دون أن يشعر، ويحرص على ضبط أواخر الكلم حسب إعرابها. وحق لهم ذلك، فهو أساس الصنعة، ومن لا يفعله يكون رديء الإلقاء، إلا أنه يخلو عادة مما يخالج الكلام الطبيعي من السرعة وتدارك الأحرف، وسوء النطق، وتغلب عليه أيضا لغة قريش، التي لا نطق فيها لبعض أشكال تلفظ الجيم والقاف والكاف.

يعني هذا أن المستمع قد لا يرى نفسه فيمن يكلمه، فهو يعطش الجيم أو ينطقها قاهرية. وهو يتدارك المخارج تداركا، أو لا يراعيها مطلقا. والكثير من لهجاتنا لا تحرك الأواخر مطلقا لتسلم. ولو أن بعضهم حركها فأخطأ لنال من المدققين سيلا من الانتقاد اللاذع حقيقة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فكيف يمكن أن يتجرأ على النطق بالعربية الفصيحة بعد كل هذا؟ بل لِمَ يضع نفسه أصلا في مصاف أولئك المتكلمين من أساتذة وأئمة وليس هو بالأستاذ ولا بالإمام؟

الجواب هنا -والله أعلم- هو أنه لا يجب عليه ذلك. أسمعك -قارئي الكريم- تصرخ من بعيد: " ولم كتبت مقالين اثنين تدعو للفصيحة ثم تقول لنا الآن لا يجب على الناس الكلام بالفصيحة؟". وأقول اصبر علي ففي المقالة  تفصيل.

العربية الفسيحة خطوة على الطريق، تعمل في لب الألة اللغوية وهي المفرادات والتراكيب، وتمنح من يريد أن يتكلم العربية الفصيحة فرصة للاقتراب منها دون أن يخاف اللوم والعتاب على الحركات  على أهميتها.

إننا إن أردنا الوصول إلى العربية الفصيحة منتشرة في المجال العام، فنحن بحاجة إلى منطقة وسيطة بينها وبين العامية، يتخفف فيها المتكلم من "الأداء" العربي، ويتكثر فيه من الألفاظ والتراكيب العربية، ويتخفف فيه من التحريك المستمر، ويستكثر من التقدير، مما لا يجري عادة على قواعد البلاغة والبيان، إلا أنه أسرع جريا على اللسان، ويفهمه كل من سمعه. وهي مساحة لغوية سماعية أساسا كما هي العامية. وهي ما أحب أن أسميه بالعربية الفسيحة التي تقع بين الفصيحة المعربة، وبين العامية المشغبة.

والعربية الفسيحة نقلة من العامية فهي تكثر من الاشتقاق العربي، فتسمي الراديو مذياعا و"البلوجز" مدونات، والـ “اللايك" إعجابا" والشير" مشاركة". كما تسمي الـ "لنش بوكس" زوادة، والسمستر" فصلا"، والبرو "أخا". لكنها لا تضبط أواخر تلك الكلمات في الجمل، بل تسكنها. ولا تأتي لها بشواهد شعرية، ولا تفخم الحروف أو ترققها.

العربية الفسيحة خطوة على الطريق، تعمل في لب الألة اللغوية وهي المفرادات والتراكيب، وتمنح من يريد أن يتكلم العربية الفصيحة فرصة للاقتراب منها دون أن يخاف اللوم والعتاب على الحركات  على أهميتها. فإحدى المشاكل التي تمنع العربية من الانتشار أن هناك تشديدا من أولئك الذين يودون أن تنتشر العربية، فهم يريدون أن تنتشر كما تؤدى على المنابر، أو كما يبدع بها الشعراء، ولا يقبل أحدهم من أحد هِنة أو لحنا، وهذا حقهم فهي هويتهم وعرضهم. إلا أن ذلك صد الناس عن حضن العربية، خاصة أولئك الذين يريدون حضنها من غير أبنائها.

لكن، هل تلك نهاية الطريق؟ لا، إنما تكون الفسيحة للمجتمع الذي يرجو الفصيحة فلا يبلغها، خطوة على طريق عربية عربانية، إلا أن التغيير على مستوى المجتمعات تغير يشبه التحول الجيولوجي الذي يأخذ أعصارا من الزمن وطبقات من الناس، والمسؤول عنه أساسا من يتحكم بعتلات التعليم والثقافة. إلا أن التغيير على المستوى الفردي سريع وممكن ومنظور، وليس المجتمع إلا مجموع أفراده، فهلا اتخذت قرارك فتغير بقرارك قرارات؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.