شعار قسم مدونات

إنسان بلا روابط في زمن العلاقات العابرة!

لا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجلة لكل ما تقدمه واحرص على العودة إلى المعنى والجدوى (بيكسابي)

حين طغت معايير المادة على منطق الإنسان، وتسيدت عقلية السوق وأدوات التقنية الحديثة على الأذهان؛ نسي الناس كيف يقيمون علاقات طبيعية في زمن لم يبق فيه طبيعي ولا صناعي على حاله، "عالم النفايات" كما يسميه باومان. حيث كل العلاقات قابلة للاستغناء، وأن توضع في سلة النفايات، بما في ذلك ما يرتبط بها من مشاعر وما يترتب عنها من التزامات ووعود، ما أسقط عنها معاني الديمومة والعفوية والتراحم، وصبغها بمعاني الهشاشة والوهن والرتابة، فحين يجتاحك السأم أو حين ترغب في التخفف من عبء المسؤولية فتزهد في الآخر. ويكأنه تحول مقيت نحو الفردية النرجسية -من حيث السياق الاجتماعي لا السياق الأخلاقي-، عصر الاستهلاك، زمن قطع الغيار واستبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، دون أدنى محاولة لإصلاح الأشياء. كأن العلاقات مواد قابلة للاستهلاك، سقوط الرغبة عنها يليه منطق التخلص من النفايات.

سياق سيولة العلاقات وهشاشة الروابط، تنهدت تنهيدة طويلة، كمن استطاع أخيرا تركيب آخر قطعة في لوح بازل مجزئ لمائة قطعة، وأنا أقلب آخر صفحة في كتاب باومان.

نعم، إنه عصر الفرص القادمة، حين يظل أحد الطرفين ملتزما باستمرار العلاقة بينما ينشغل الآخر بالبحث عن فرص جديدة أفضل، في ظل تغير الظروف -وهي دائمة التغير في زمن التسارع إذ لا شيء فيه مضمون-، فرص جديدة لابد أن تكون فضفاضة هي الأخرى إذ يمكن فكها دون تردد في عالم يبغض التقييد. تلك الفرص التي استنبتت من تربة الحداثة المسقية بخيارات العوالم الافتراضية (إلغاء الصداقة، الحظر أو الإقصاء والحذف)، لا من ثمرة شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

في ظل هذا السياق، سياق سيولة العلاقات وهشاشة الروابط، تنهدت تنهيدة طويلة، كمن استطاع أخيرا تركيب آخر قطعة في لوح بازل مجزئ لمائة قطعة، وأنا أقلب آخر صفحة في كتاب باومان. ذلك لأن من الصعب أن نقرأ أنفسنا والمجتمع، أن ندرك أن سلوكياتنا مصبوغة بصبغة النظام الرأسمالي وفق نسق فكرية ممنهجة. ولقد أبدع باومان في تحليل التواصل السطحي والارتباطات السريعة، مع التركيز على فكرة أن العلاقات أصبحت قابلة للاستهلاك والتخلص منها بسهولة. حيث يتوارى العمق والتأصيل، وتطفو الهشاشة وثقافة العلاقات النفعية أو المصالح المشتركة. يتساءل المرء في هذا السياق عن مفهوم الاتصال الحقيقي والعلاقات البنيوية التي تمنح الحياة طعمها الحقيقي. وهل يمكن للفرد العودة إلى جوهر المعنى، وأصل مفاهيم الانتماء والترابط في هذا العصر المتسارع؟

تصور! تلك اللغة الفلسفية الرفيعة والجذابة في كتاب باومان يتناول فيها جوهر التغيير الذي قام به مشروع الحداثة فلسفيا ومجتمعيا ونفسيا، انطلاقا من صلب الأسرة فالمجتمع وانتهاء بالسياسة، يشير فيه إلى أن التأقيت والمدى القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع الاستهلاكي قد خلقا أفرادا بقدر كبير من الانفصال العاطفي والإنساني، لا يرغبون في دفع أثمان ولا استثمار وقت ولا التضحية من أجل ان يحصلوا على مزايا التواصل الاجتماعي الحقيقي، بل ويتوسلون الفتوى الدينية من أجل إضفاء الشرعية على علاقات مبتورة تتسم بالتأقيت وتقوم على مصالح نفعية لا تصب في تصوراتنا للأسرة ولا تحقق مقاصد الدين. والعجيب أن باومان وصل للأصل الذي نتبناه كمسلمين والذي تبنى عليه العلاقة العاطفية، في قوله: "البحث عن الأمن في المقام الأول والأخير، الأمن بمعانيه المتعددة: أمن القرب من يد العون في الشدائد، والتعزية في الأحزان، والمؤانسة في الوحدة، والغوث في المحنة، والمواساة في الفشل، والتهنئة في النجاح، والتلبية الفورية للحاجة عند طلبها". والتي أصلها الدين بدوره في قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} السكن، الأمان والطمأنينة.

وكيف يمكن بالعودة إلى هذا المفهوم التراحمي وتأصيله أن نضع أسس إعادة تشكيل رؤيتنا لأنفسنا ولعالمنا، بل وفهم الوحي وكشف زيف المفاهيم التي يتم التسويق لها عن الحرية والسعادة والتخفف من القيود والضغوط اليومية، في سياق وجداني إنساني واقعي بدلا من أن تكون مفاهيم تبدو انفرادية متعالية على الحس الوجداني وديناميات النفس البشرية. ويعبر فروم عن هذا التأصيل قائلا: "لا يمكن تحقيق الالتحام الوجداني من دون تواضع حقيقي، وشجاعة حقيقية، وإيمان حقيقي، وانضباط حقيقي"، لكن ما يلبث أن يقول أيضا في حزن وأسى: "إنه في ثقافة تندر فيها تلك الخصال، لابد من أن تندر القدرة على الحب". وهذا صحيح تماما في ثقافة استهلاكية مثل ثقافتنا، يتباهى فيها الناس بمهارتهم على الإنهاء السريع للعلاقات والبدء من جديد، كما لو أنها "علاقات الجيب العلوي"، والتي تشرحها كاثرين جارفي بقولها: "تسمى كذلك لأن هؤلاء الناس القادرون على التملص من علاقاتهم بشكل سريع يحتفظون بها في جيوبهم العلوية بدل قلوبهم بحيث يمكنهم إخراجها بسهولة"، والحقيقة أن هذه العلاقات تنتهي قبل إعلان النهاية بكثير، تنتهي لحظة التخلي، ولحظة التولي، ولحظة الخذلان ولحظة فقدان الشعور بالأمان. وكل لحظة تسبق النهاية المعلنة ما هي إلا تفاصيل.

كن إنسانا في كامل بشريته ولا تستسلم بتلك السهولة لما تفرضه الحداثة، لسنا آلات تتم برمجتها ولا عرائس ماريونيت. وابذل أقصى جهدك في منح علاقاتك الإنسانية رابطا وجدانيا حقيقيا والتزاما وقدسية

بتلك البساطة التي لا تعقيد فيها، يتداخل معنى السكن والترابط الوجداني بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى العلاقات، بل إنه حجر الزاوية في كامل الخريطة المفاهيمية. والعلاقات بذاتها تركيب محايد ليس معنيا بأن يكون له معنى. نحن من نخلع المعنى عنه ونحن من نكسوه، وهذا المعنى يتلون بلون مفاهيمنا، أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: المستثمر مثلا يرى في العلاقات استثمارا مثل غيرها من الاستثمارات، نفعية صالحة دوما لتكون ساحة ربح وخسارة، فرص متجددة ربما، لذا لا يمكنه أن يحلف قسم الولاء لسوقٍ دون أخرى، لأن أعينه ستتطلع دوما لمكان آخر يغوي بفرص أفضل. والفيزيائي يرى في العلاقات تركيبا يعج بسحر الأنوية والجسيمات المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية، كيف يتفاعل الأفراد وكيف يتشكل الارتباط بينهم على أساس التأثيرات الروحية والعاطفية المشتركة، فتغدو متانة العواطف كقوى جاذبة تؤثر على اندماج الأفراد، كما القوى التي تجمع بين الجسيمات في العالم النووي، كيف تتناغم فتخلق باندماجها نماذج أخرى أكثر تعقيدا وترابطا، وكيف تسعى دائما نحو الاستقرار. ويسري الأمر ذاته مع الآخرين، وكل حسب مزاجه ورغبته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية، وتشكله الفلسفي والذهني.

أستطيع القول، بعيدا عن النبرة الأكاديمية أو العاطفية، إن الخلاصة الفلسفية لمعنى العلاقات قد تكون متجوهرة في العبارات القليلة التالية:

يكمن معنى الروابط وغايتها في عقولنا وأرواحنا والأسس الدينية والأخلاقية التي نتبناها. كن إنسانا في كامل بشريته ولا تستسلم بتلك السهولة لما تفرضه الحداثة، لسنا آلات تتم برمجتها ولا عرائس ماريونيت. وابذل أقصى جهدك في منح علاقاتك الإنسانية رابطا وجدانيا حقيقيا والتزاما وقدسية؛ وفي هذا المعنى أتذكر قولا عميقا لجبران خليل جبران في كتابه "النبي"، إذ يقول: "ويكون فيما بينكما قدسية، فتخلق قدسية العشق حياة للأحياء، وقدسية الزواج تحفظ لكم حياة الأرواح"، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجلة لكل ما تقدمه، واحرص على العودة إلى "المعنى" و"الجدوى" للذات الإنسانية في ظل قيم دينية أخلاقية رفيعة عوضا عن مشخصات مادية سريعة التبدل والعطب. هذا هو ما يضفي معنى على العلاقات، وليس كل ما سواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة الثقافة الاستهلاكية الزائفة أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.