شعار قسم مدونات

مجاهدون ودعاة!

فلسطينيات نازحات يعددن ما يسمى شعبياً "خبز الصاج" في مخيم للنازحين غرب مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة على الحدود مع مصر.
أذهل العالم الغربي الثبات الأسطوري في وجه المحن الذي استمده أهل غزة من دينهم (الجزيرة)

العدد هنا وصل إلى 22 ألفا، وهناك العدد هو أيضا مثل ذلك، 22 ألفا، فمع كل جرح جديد يشرق فتح قادم.

هذه الإشارة جاءت في واحد من مجموعة مقاطع فيديو وقعت عليها، تبرز جانبا من تفاعلات وتبعات عملية طوفان الأقصى وما تلاها، ولكنها تفاعلات لا تجري على أرض غزة، بل هناك في الغرب البعيد، والذي لطالما كان في الماضي أسير الدعاية والسردية التي يسوقها الصهاينة لهم.

العدد المذكور هو للأشخاص الذين أعلنوا إسلامهم في فرنسا وحدها منذ السابع من أكتوبر الماضي، وحتى تاريخ تسجيل الفيديو، وقد توافق ذلك مع عدد الشهداء الذين ارتقوا في غزة حتى ذلك الحين، استوقفني رابط الرقمين، وبدا لي كأنه قدر من الله يحمل التأكيد على أن إرادة الله هي الغالبة، ولأنها كذلك فهي قد تسخر سلوك أعدائه وأعداء الإنسانية للوصول إلى نقيض ما يريدون.

نقف عند الأميركية ميغان رايس، التي رأت غرابة في قوة إيمان الفلسطينيين، الذين يحمدون الله رغم فقد كل شيء، ورأت الناس تقول إن الفضل في ذلك يرجع إلى الإسلام والقرآن؛ فدفعها ذلك إلى إعلانها خطوة تالية: أنا لدي الوقت، ولدي الفضول للبحث والمعرفة، لقد بدأت للتو قراءة القرآن لأعرف سر مصدر قوة أهل غزة

المعلومة مستقاة من مادة كتبها أحمد منصور، مذيع الجزيرة، بعد لقاء جمعه مع عبد الله بن منصور، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، وفيه أدلى بِن منصور بمعطيات تفصيلية عن إقبال غير مسبوق في الغرب على الإسلام بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها، حتى إن عدد الذين يسلمون يوميا في فرنسا صار يصل إلى 400 بعد أن كان قبل ذلك حوالي 80، فما الذي جرى؟ وما هي الحكاية؟

في عالم الغرب، طغت المادة واعتباراتها، وكادت الدنيا أن تغدو للإنسان كل شيء، فهي له البداية والنهاية والمتاع، وعلى ضوء هذا الفهم صار يفسر سلوك الناس ومشاعرهم، وطريقة سيرهم في الحياة؛ فإذا بأحداث تتفجر في غزة، وتحمل لأبنائها من المحن والابتلاءات شيئا عز نظيره في تاريخ الشعوب، ولو أنها صُبَّت اليوم على شعب آخر لحطمت روحه، وأوقعت فيه الهزيمة، ودفعته إلى الاستسلام، لكن شيئا من ذلك لم يحدث في غزة، بل كان الذي حدث هو النقيض، فكان ذلك مدعاة لأناس يتابعون الأحداث وتفاعل الغزيين معها ليتساءلوا عن السر وراء ذلك.

ينقل أحمد منصور خبر فتاة أسلمت، ولما سئلت عن الذي دعاها لذلك كان ردها: لقد شاهدت أما فقدت أبناءها الخمسة، وبدلا من أن تلطم وجهها وتصرخ وتبكي، وجدتها صابرة وتقول: لقد سبقوني إلى الجنة، وغيرها وغيرها، فقلت هؤلاء ليسوا بشرا، فكيف أصبحوا كذلك حتى أصبح مثلهم، فعرفت أن دين الإسلام وراء ذلك اليقين فقررت أن أدخل هذا الدين. ووقفة العجب والإعجاب هذه تكررت في شهادات وأقوال الآخرين.

يبدأ الأمر برؤية شيء يبدو غريبا، فيثير الفضول، ويدفع للبحث عن مكنوناته في القرآن الكريم، كتاب المسلمين ومصدر تشريعهم ومُلهِم سلوكهم؛ وهنا نقف عند الأميركية ميغان رايس، التي رأت غرابة في قوة إيمان الفلسطينيين، الذين يحمدون الله رغم فقد كل شيء، ورأت الناس تقول إن الفضل في ذلك يرجع إلى الإسلام والقرآن؛ فدفعها ذلك إلى إعلانها خطوة تالية: "أنا لدي الوقت، ولدي الفضول للبحث والمعرفة، لقد بدأت للتو قراءة القرآن لأعرف سر مصدر قوة أهل غزة"، وأقبلت رايس على القرآن، وفي ذهنها تساؤل محدد تريد إجابة عنه، فإذا بها تجد أكثر مما تطلب، إجابات كثيرة بشأن قضايا أخرى عديدة.

سقوط الدعاية المعادية للإسلام هزيمة كبرى لأعدائه، وفتحا جديدا أوصله إلى أناس في أوروبا والغرب، كانت قد أقيمت بينه وبينهم حواجز من تشويه وحواجز من جهل، فلما عرفوا حقيقته أدهشهم، فنطق الآلاف منهم بالشهادتين وفرحوا بإسلامهم أيما فرح.

تجربة ميغان الشخصية مع قراءة القرآن وتدبر آياته ومعانيه دفعتها لتعميمها، فأطلقت عبر "تيك توك" مبادرة لقراءة القرآن، سرعان ما انضم إليها آلاف المعجبين بصفحتها، ليعيشوا مثل تجربتها ويقبلوا على القرآن لقراءته، والاطلاع على معانيه ومحتواه، وليتبادل الجميع الانطباعات والتجارب بشأن ذلك. ومثل رايس، كان الفضول دافعا لآخرين ليبحثوا في القرآن عن المعاني التي كانت وراء صمود أهل غزة، ولئن كانت تلك هي الغاية الأولى فإنهم لم يكتفوا بالوقوف عندها، فرحلتهم مع القرآن أخذتهم في رحابه ليكتشفوا أنه مع عرضه لحقائق الدين والشريعة، يشمل  تنظيما محكما لشؤون الأسرة وحقوق المرأة، وقضايا الاقتصاد والمجتمع، ويعرض حقائق علمية مكتشفة حديثا، ويأتي ذلك كله في سرد محكم وإطار بديع غير مألوف؛ فكان هذا مثار إعجاب بالدين الذي يدعو إليه القرآن وإقبال عليه، بعد تصحيح الصورة المشوهة التي سوقت لهم في الماضي عنه. فيما شددت ميغان على أن أكثر ما تفتخر به في مشروعها أن كثيرا من الأحكام المسبقة الخاطئة يتم تصحيحها فيه.

وكما أذهل العالم الغربي الثبات الأسطوري في وجه المحن، الذي استمده أهل غزة من دينهم، أذهله كذلك أن هذا الدين يدعو أتباعه ليعاملوا أسراهم وفق ضوابط ومعايير غاية في الرقي والإنسانية، وهذا ما تواترت عليه شهادات من أطلقت سراحهم حماس في عملية تبادل الأسرى، وقبل أن تأتي الشهادة بكلمات منطوقة أكدتها ملامح وتعابير الأسرى، أكدتها صورة طفلة لا تكف عن الابتسام والتلويح بيدها لرجل من آسريها، وهي تبتعد عنه ليستلمها عناصر الصليب الأحمر، أكدتها هيئة الأسرى الذين ظهروا بأتم صحة وأحسن حال، ومشاعر الود التي أبدوها وهم يودعون رجال القسام؛ فكانت تلك المشاهد ضربة قاصمة للدعاية التي لطالما تعب الصهاينة وساسة الغرب لترسيخها في أذهان مجتمعاتهم، وأنفقوا فيها المليارات، لتصوير الإسلام على أنه دين إرهاب يجافي معاني الإنسانية.

كان سقوط الدعاية المعادية للإسلام هزيمة كبرى لأعدائه، وفتحا جديدا أوصله إلى أناس في أوروبا والغرب، كانت قد أقيمت بينه وبينهم حواجز من تشويه وحواجز من جهل، فلما عرفوا حقيقته أدهشهم، فنطق الآلاف منهم بالشهادتين وفرحوا بإسلامهم أيما فرح.

أتأمل المشهد أمامي، فلا يسعني إلا أن أربط بين صورتين فيه؛ في الصورة الأولى أرى أبناء غزة في جهادهم، جهادهم بالبندقية وبالياسين، جهادهم بالثبات وبالرباط، جهادهم بالصبر والرضا بأمر الله، وبهذا نجد أبناء غزة كلهم مجاهدين. وفي الصورة الثانية أرى في الغرب إقبالا متزايدا على الإسلام من أناس اكتشفوا فيه ما أدهشهم، وهذه الصورة قدر الله أن يكون ما أبداه أهل غزة في مسيرتهم وسلوكهم سببا لها، ليجتمع لهم الحضور في الصورتين، وليكونوا بذلك مجاهدين في سبيل الله، ودعاة إلى دين الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.