شعار قسم مدونات

رحلة انتماء طفلك لركب الصائمين

يظن البعض أن الأطفال مجبرون على الصيام في رمضان
الحرمان قد يكون أحد أسباب السرقة لكن ضده تماما توفير كل ما يشتهي الطفل دون ضوابط (مواقع التواصل الاجتماعي)

قبل فوات الأوان وشح الحلول وسطحية مفعول التعزيز وإحباط محاولاتك في استمالة طفلك للصيام، ابدأ الآن.

تحزنني الاستشارة في أيام رمضان، وسعيُ الأهل قبلها بكل المحفزات لضم طفلهم إلى مائدة الإفطار بعد صوم ساعة واحدة أو أقل رغم اجتيازه سن التاسعة أو حتى العاشرة، والقيام باستعطاف الطفل لأهله، فلا يهون عليهم "صعب يا بابا صعب جوعان".

تكررت الحالة مرات وواجبي أن أقدم حلا، لكن قصر مدة شهر رمضان وتعداد أيامه يضطرني لإخبار الأهل بالحقيقة، سنبدأ الآن بالتخطيط والعمل لصيام أيام من العام القادم!

بالطبع يمكنني تقديم حلول سطحية مؤقتة تفي بالغرض، لو كان صيام ساعة أو ساعتين ليشعر الطفل بالانتماء لركب الصائمين، لكن عدم رغبة الطفل بالصيام وامتناعه عنه تدل على ما هو أعمق وعلاجه ينعكس على مختلف جوانب حياته.

لو اشتهى الطفل تينا وأحضرت له سلة تين يكفي أن يأكل ثلاث حبات ويتلذذ بباقي السلة على أيام متتابعة، ليس من الكرم ولا من الصحي أن يأكل سلة التين كلها دفعة واحدة

خذ مثلا "السرقة" رغم كثرة أنواعها ومسبباتها فإن سؤالا واحدا للأهل يساعدني على فهم حالة الطفل وكيفية مساعدته: كيف حاله مع صيام رمضان؟ كم صام من رمضان هذا العام؟
فإن أبدى الأهل تذمر الطفل من الصيام عرفت أن مشكلة الطفل في الانضباط الذاتي وحله في تعليم الصبر والمقاومة.

صحيح أن الحرمان قد يكون أحد أسباب السرقة لكن ضده تماما؛ توفير كل ما يشتهي الطفل دون ضوابط؛ هو أيضا مسبب للسرقة! فقد اعتاد على امتلاك كل شيء متى شاء ولا ممنوع.

في عصرنا الذي تضخم فيه مفهوم التربية الحديثة وتشوه ليصل إلى استبدال دور الأهل بما لا يحتمله بشر وبدأ الطفل يبتز أهله عاطفيا فيرغمهم على الطاعة لأوامره، نعم أعني ما كتبت؛ الطفل هو من يبتز أهله فقد اكتشف نقطة ضعفهم وشعورهم بالذنب تجاه أي تقصير محتمل ورغبتهم في أن يظهروا كأفضل والدين في العالم، ما إن يبدأوا بإظهار القوانين وفرض نظام صحي حتى يشغّل استعطافه "أنتم لا تحبونني، أنتَ أبٌ قاس، لستِ بأمٍّ حنون.." فيتراجع الأهل مع أول تصريح يمس والديتهم فيعود الدلال والعطاء والتسيب.

لا أدعوا بالطبع إلى حرمان الأطفال من حقهم بالتنعم بما أنعم الله عليهم وعلى أهلهم، أو عدم إشباع احتياجهم، لكن لو اشتهى الطفل تينا وأحضرت له سلة تين يكفي أن يأكل ثلاث حبات ويتلذذ بباقي السلة على أيام متتابعة، ليس من الكرم ولا من الصحي أن يأكل سلة التين كلها دفعة واحدة بحجة، ألا يشتهي! هذا بالضبط ما أعنيه.

ذكرني المثال بموقف شهدته في الثانوية عندما كنت أوزع حلوى مولود جديد لعائلتنا وكان من الضيوف فتيات، لفت انتباهي بنتين من نفس الفئة العمرية أخذت إحداهن حبة حلوى واحدة واكتفت، وأخذت الثانية ملء كفها حبات وكادت تملأ كفها الآخر، استغربت الفرق رغم أنهما من عائلتين متماثلتين في الغنى والرزق ورحت أراقب على سنوات فضولا وفهمت أكثر بعد دراستي للتربية.

لا يمكننا الحكم على انضباط الطفل قبل الثالثة، فنمو الناصية المسؤولة عن الانضباط والتحكم واتخاذ القرار ينشط من الثالثة إلى السادسة

أم الثانية كان شعارها ألا تحرم أولادها من شيء حتى لا يشتهوا ما لدى الغير فكانت تحضر لهم من كل شيء أكثره. أما أم الأولى التي اكتفت بواحدة، فقالت ذات مرة أنها لا تريد لأطفالها أن يجحدوا بما أنعم الله عليهم، فلهم ما يكفيهم من قوت وما يسد حاجتهم.

هذا ما نسميه في التربية المالية بالفرق بين الرغبات والحاجات وهذا المفهوم يسهل على الأهل التمييز بين ما ينبغي تقديمه للطفل فورا وما يحتمل تأجيله، فإذا تدرب على تأجيل تحقق رغباته وتعلم قوة الانتظار والصبر للحصول على ما يشتهي فاز بلقب الصائم، الصائم ليس فقط عن الأكل بل عن الرغبات كلها التي تحتمل التأجيل فقوة الصائم في قوة انضباطه في الأكل والشرب والكلام والتواصل والإنفاق وغيرها.

وأؤكد على ضرورة امتلاك الأهل حساسية تجاه ما يتناسب مع كل طفل ومراعاة الفروق الفردية الجسمانية والنفسية، وضرورة التدرج في تعليم الطفل الصبر والانتظار، والتأجيل مدة قصيرة محددة تزداد كل ثلاث أيام بنسبة صغيرة إلى أن تصل في شهر رمضان المبارك لمدّة يستحق عليها لقب الصائم، أيّاً كانت فقد عمل لأجلها طويلا.

مع العلم أنه لا يمكننا الحكم على انضباط الطفل قبل الثالثة، فنمو الناصية المسؤولة عن الانضباط والتحكم واتخاذ القرار ينشط من الثالثة إلى السادسة، وهي فرصة لاستثمار المرحلة في تمرينه على القوانين وإرفاق التزامه بمعززات تضمن تحفيزه، ولا نسأل الطفل قبل السابعة الصيام ولا نجبره، ونشجعه بعدها على ساعة أو ساعتين مع مراقبة ودعم فإذا زاد عن طيب خاطر زدناه تشجيعا ودعما، دون الضرر بصحته إلى أن نتأكد بأن جسده صار مناسبا لاستمرار الرحلة، رحلة الانتماء لركب الصائمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.