شعار قسم مدونات

عن صورة غزّة في فلسطين والعالم

مشاهد من استهداف جنود العدو وتدمير آلياته المتوغلة في محاور مدينة غزة المصدر:حساب القسام على تليغرام https://t.me/qassambrigades/29752
مشاهد من استهداف جنود العدو وتدمير آلياته المتوغلة في غزة (حساب القسام على تليغرام)

هناك من يريد أن يتحدث عن غزة أخرى، يريد أن يسمي غزة من خارجها، أن يمحوها بكل تفاصيلها ومعالمها وأهليها. بعيدا عن جبروتها، وبذرة تشكلها العظيم، هي جباليا عبق التاريخ وثقل الصراع. شوارعها الضيقة تروي حكايات المقاومة والصمود، والمنازل تحمل آثار الزمن والتحديات. في مخيم جباليا، ينعكس الجدار الفاصل بين الواقع والأمل. الحياة هناك تقف في وجه التحديات بإرادة فولاذية وروح قوية. وهي الشجاعية بما تعكسه من مجتمع نابض بالحياة حيث تماسك العائلات وروح التضامن في وجه التحديات الدائمة. وهي خانيونس الجسر الواصل بين التراث والحداثة، حيث تقف المباني التاريخية جنبا إلى جنب مع المباني الحديثة. وهي مخيم نوفل ومدينة دير البلح، وهي تل الهوا والرمال، وهي البلدة القديمة قلب غزة، تاريخها ورصافتها حيث يتداخل فيها الحجر القديم في جدران المباني مع الزخارف الفنية والأقواس الضيقة ليخلقوا سياقا فريدا من نوعه. المآذن العتيقة تظهر فوق أسطح المباني، تنادي للصلاة كما فعلت على مر القرون، وعلى رأسها المسجد الكبير. وهي عزة العروبة وروح المقاومة، وهي غزة قبل أن تفصل الغارات شمالها عن جنوبها، وهي شارع "المقاومة" العظيم يمتد كأسطورة حية، يحمل في طياته حكايا المقاومة، وهي ما تبقى من المسجد العمري وكنيسة القديس بورسس، وهي شاطئ البحر حيث يتداخل فيها اللونان الفاتحان للرمال والسماء لا بحدودها التي يشتد عليها الحصار تضييقا وعنتا، هذه هي غزة التي كشفت عُري العالم بصمودها وكفاحها وصلابتها.

لا ينبغي لأحد أن يقزَّم غزّة من خلال النظر إلى الحصار الخانق عليها والدّمار الذي حلّ بها، إنما لينظر إليها من خلال استبسال رجالها في الأماكن التي ذكرنا، ذلك لأن التلاسن القبيح والتذمّر والاستنكار من فعل المقاومة لا دالة على وجوده هناك.

من يتابع أحداث الحرب ورأى بأم عين قلبه شباب المقاومة بملابسهم البسيطة، ونعالهم الرثة وعتادهم المتواضع، لا يخيب ظنه بقدرة المدينة على استعادة كبير عزتها وبهي مجدها، لا يخيب أمله بفلسطين أخرى تسعى جاهدة لتغيير الصورة الأخيرة التي نمطتها بها الحركة الاستعمارية والعملية السياسية القبيحة والتكالب نحو التطبيع في العالم، ولمن يريد أن يؤكد لأمانيه التحقق فلينظر إلى قلب المدينة، إلى شعبها وشبابها وأطفالها، إلى حماس وإلى سرايا القدس ولا يذهبن ببصره بعيدا عنها حتى لا يفوته شرف اللحظة. لحظة النصر التي أشعل فتيلها في السابع من أكتوبر المجيد.

كانت المدينة هادئة، هدوء المترقب المتربص لا هدوء اليائس الخانع، تزدحم في قرارها بخطط الثابتين الراسخين على درب الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي والقسام ونزار ريان وغيرهم من الساعين لرؤية جوهر الحرية في رسالة تحمل صورة مقلوبة للوجوه السياسية، الوجوه التي دأبت تتسارع نحو التطبيع، كان العالم يعتقد بأن تلك هي نهاية حكاية تمثل الشعب الفلسطيني لهويته، لكنها في الحقيقة لا تمثل إلا الجزء الذي أرادوا هم إظهاره للعالم، كان المتصهينين العرب غير معنيين بصوت من أبى، وظلت بهجة التطبيع صهيونية بامتياز لتقدم رسالة أخرى ولتتحدث عن زمن اسرائيلي خالص، سيعيد السلام المزعوم للشرق الأوسط، خال من أدران الطوائف وفوضى الاقتتال وقبح الفساد، كانت هذه هي صورة الكيان المزعوم على المسرح العربي والعالم السياسي وفي قاعات المؤتمرات العالمية والدولية وغيرها من الساحات السياسية الكبرى، لكنها لم تكن يوما الصورة الخالدة في الذهن الفلسطيني والعربي الأصيل والإنساني النزيه عموما.

هكذا هي غزة الني لا نملك في قلوبنا صورة غير صورتها الخالدة في يقين الكون أجمع، أيقونة الجهاد والثبات

لا ينبغي لأحد أن يقزم غزة من خلال النظر إلى الحصار الخانق عليها والدمار الذي حل بها، إنما لينظر إليها من خلال استبسال رجالها في الأماكن التي ذكرنا، ذلك لأن التلاسن القبيح والتذمر والاستنكار من فعل المقاومة لا دالة على وجوده هناك. بل هم شعب مأخوذ بالخطى تجاه مقصد هو الموحد الجامع لكل السائرين إليه، من المتطلعين لفلسطينهم في الأعظمية والعروبة حيث توحد القدس القلوب والأرواح. أناس تسعى واثقة نحو الشهادة "كلنا مشروع شهداء" هذا قولهم بألسنتهم، ذلك لأن الذين دخلوا نهر الدم والكفاح ذات يوم لم يدخلوه مرجفين بل صادقين محتسبين، حيث لم يعد زمن الخطوات المتقهقرة، بل صار الكفاح واقعا لا يرتضي حر كريم العيش بعده بذل.

هكذا هي غزة الني لا نملك في قلوبنا صورة غير صورتها الخالدة في يقين الكون أجمع، أيقونة الجهاد والثبات، هي الأزلية بأزلية صمودها وهي العظيمة بروح شعبها الصغير منهم والكبير، فلا يحتقرن أحد دماء هذه، ولا يستخفن بجبروتها وقدرتها على انتزاع الحرية في القريب العاجل، مهما طمست فيها من معالم ومهما زهقت أرواح ونسفت عائلات ومسحت عمران، فذلك ثمن الحرية الذي لابد منه، ستبقى روح المدينة هي ذاتها راسخة بتاريخها، تستمد كينونتها من أصالة شعبها ومن طهارة دم شهدائها ومن صمود مجاهديها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.