شعار قسم مدونات

شكرا غزة العزة

اكتفينا بك يا الله وليا ونصيرا مهما خططوا ومكروا بنا فأنت خير الماكرين (الفرنسية)

عندما تنتفي مقومات الحياة الطبيعية، المادية منها والمعنوية بسبب العدوان؛ فيُفقد الأمن والأمان، وينهال القصف والهدم والإبادة والقتل على البشر وتنتشر الدماء، ويُدب الرعب والهلع والجزع فتزيغ القلوب، ويعم الجوع والعطش بين الناس فتضطرب النفوس، ومع ذلك نجد قلب الغزيّ يندفع برحمة الله تعالى إلى ملكوت السماوات، ملتجئا إلى موطنه الأصلي في السماء، مضطرا لله بكل ما أوتيَ من وعي بإرادة لله تعالى، فينطلق قلبه ساجدا لله عند عرش الرحمن -قبل الجبين- يناجي ربه ويُناشد؛ حتى تخرج الكلمة من العمق: "معلش"، "كله يهون لك يا الله"، "هاد رخيص لأجلك يا الله"، وكأن هناك إشارات معنوية شعورية تصلهم من العلو، فتعمق عندهم معاني إستجابة الله تعالى لهم..

نداءات قرآنية حفظتها صدورهم عند السراء، فحفظتهم عند الضراء، تلوح لهم هذه الآيات في الأفق فتناديهم: ﴿اقض ما أنتَ قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾

لماذا هذا حالهم! هل بسبب كلمات القرآن التي درسوها وتدارسوها!، فعمقت في فكرهم ومشاعرهم معالم الإسلام وأركان الإيمان والثبات، فتمثلت لهم تلك الكلمات مشاهدا عيانا؛ لتقول لهم: فاستجبنا، ونجينا، ونصرنا، وآوينا، ورفعنا، وهدينا، وقربنا، وبشرنا، فنقلتهم هذه الكلمات القرآنية من الترتيل إلى التشكيل، ومن التنظير إلى التطبيق؛ لتكون سلوكيات معبرة عن العبودية الخالصة، كلمات مزروعة في وعيهم وثابتة، نقلتهم من الدنونية إلى العلوية، حقا إن الغزيين قوم اختارهم الله تعالى؛ للأنهم قوم استشعروا مركزية الآخرة، فلما أدركوا اصطفاء الله تعالى لهم، وعوا أن الله بتكليفهم قد اصطفاهم، قال صلى الله عليه وسلم:(وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان).

استشعر، كأن هناك من يناديهم بنداءات قرآنية قد حفظوها في وجدانهم واصطبغوا بها، صارت تُبدِد لهم ما في نفوسهم من وهن وهشاشة رغم المحن والمصائب التي يرونها عيانا، -ونحن عاجزون؛ لا نملك إلا نبكي لها خلف الأجهزة المرئية-، إنها نداءات قرآنية حفظتها صدورهم عند السراء، فحفظتهم عند الضراء، تلوح لهم هذه الآيات في الأفق فتناديهم: ﴿اقض ما أنتَ قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾؛ افعل كل ما تستطيعه أيها العدو، فهي دنيا فانية، وأن يدخلنا الله الجنة هو أقصى ما نتمنى.

آية أخرى يتردد صداها لهم ﴿لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليه القتل إلى مضاجهم﴾؛ الموت كائن لا محالة إلا إن موتتنا شهادة عظيم شأنها، وحياتنا جهاد عظيم شأنه، إنه يستحق ما نعانيه لأجلك يا الله، وآية ثالثة تخاطبهم ﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة﴾؛ نعلم أنه من المؤكد أن يكون هناك فتن متنوعة، تظهر على شكل منافق ومتخاذل ومعادي، سنتحداهم بقوة الله والله يهون علينا، وآية أخرى تتردد لهم ﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله﴾؛ إنه لن يصيبنا إلا ما أذن به الله، وآية أخرى تقول: ﴿لِيهلكَ مَن هلك عن بيّنة ويحيى مَن حيّ عن بيّنة﴾؛ ستتضح الرؤيا يوما ما، سواء في الدنيا أو يوم تجتمع الخصوم عند بارئها، وآية تبدد الخوف لهم ﴿ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾؛ اكتفينا بك يا الله وليا ونصيرا مهما خططوا ومكروا بنا فأنت خير الماكرين، وآية تهدأ اضطرابهم: ﴿يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي ا لمؤمنين﴾؛ موقنون بأنه مكتوب على اليهود الهزيمة والخزي والعار بأيديهم وأيدينا، وآية أخرى تناديهم ﴿فاصبر وما صبرك الا بالله﴾؛ نصبر فمنك الصبر والقوة، وعليك التكلان.

لقد وعينا أن المبادئ والقيم السامية، والمشيئة القاهرة، منهج رب العالمين لا حياد عنه، وقد استوعبنا أن عدل الله حق مهما طال الزمان

شكراً أهل غزة، على ما قدمتموه وإن كان ثقيلا عظيما، فقد كُشفت لنا الحقائق، وتميز الخبيث من الطيب، لقد تعلمنا كيف نتجرد من الدنيا ومتعلقاتها، وفهمنا المعاني من ﴿إنّا لله وإنا إليه راجعون﴾، وأدركنا أخيرا أن العزة بالاستمساك بمنهج الله فكرا وروحا وسلوكا، والذلة بالابتعاد عن منهج الله والتقهقر.

لقد وعينا أن المبادئ والقيم السامية، والمشيئة القاهرة، منهج رب العالمين لا حياد عنه، وقد استوعبنا أن عدل الله حق مهما طال الزمان، ومن ثم فإن الله يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون المُتخاذلون المنافقون أعداء الله والرسول، ولقد عرفنا من يزرع الأوهام في عقولنا، بل وكيف يزرعها بالدجل والزيف في وعينا، ويغرس الأحلام الكاذبة الساذجة في شعورنا، وتأكدنا أنه أتى أمر الله ولكن نحن قوم يستعجلون؛ لقد استعجلنا النصر، وأردناه بالأمنيات، وانتظار البطل المغوار، والآن تأكدنا أن النصر معلق بالسماء، يحتاج توبة نصوحة ابتداء، وسعيا بالله ولله، ووعيا بالمخططات والتكتيكات والاستراتيجيات، وإعداد عدة وعتاد مع الإيمان الراسخ، وعمل بعقيدة سليمة وعمل صالح، ﴿وقل اعمَلُوا فسيرَى اللهُ عملَكم وروسولُه والمؤمنون﴾.

شكرا أهل غزة، شكرا من الأعماق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.