شعار قسم مدونات

الهوية فعل مقاومة!

فلسطين-القدس-حي جبل المكبر - 3 يناير 2024-خاص بالجزيرة نت- القوات الإسرائيلية تهدم منزل الفلسطيني إياد الشقيرات
القوات الإسرائيلية تهدم منازل الفلسطينيين (الجزيرة)

لمالك بن نبي رحمه الله قصة كتبها بالفرنسية سنة 1947 بعنوان "لبيك حج الفقراء"، ونشرتها دار الفكر في دمشق عام 2009م، بترجمة د. زيدان خوليف. في هذه القصة استطاع مالك أن يقدم وصفا للمجتمع الجزائري ببساطته وأصالته ومحافظته على هويته وتراثه ودينه رغم كل المحاولات الفرنسية شديدة العنف لطمس هذه الهوية، وحرف الشعب عن فطرته وإنسانيته وعولمته. وقد أراد مالك من خلالها التأكيد على أن في المجتمع قيما راسخة ليس من السهولة طمسها ولا إلغاءها، وأنها تحمي الإنسان والحضارة من الذوبان والاضمحلال، فقوة الدين، وقوة المركز، تشد دائما أفراد المجتمع لتعيدهم نحو تلك القيم مهما ابتعدوا عنها، ومهما أثرت فيهم دعوات المادية الاستعمارية ترهيبا أو ترغيبا.

وكما هو معروف لم يكن مالك بن نبي منشغلا بمسألة الهوية بقدر انشغاله بالبحث عن أسباب الانحطاط والقابلية للاستعمار في بلداننا، ولكنه هنا تطرق بحسه السليم إلى مسألة الهوية وكيف تكون حامية ومنجية للشخصية ومكوناتها من جهة، وللمجتمع ولأطيافه من جهة أخرى.

ما يجري اليوم في غزة من إبادة وقتل وتدمير ومساندة للقاتل وتبرير إجرامه، ما هو إلا صورة من صور الهيمنة المقيتة التي تحاول محو الآخر أو تدجينه

صراع الهوية

يتناول كثيرون موضوع الهوية، التي تعني كياننا وثقافتنا الجامعة وانتماءنا لأوطاننا، بطريقة تجعل من يدافع عنها ويرى ضرورة الالتزام بها والمحافظة عليها يصنف على أنه فريق يقف ضد فريق آخر لا يرى في الدفاع عنها ضرورة ملزمة، بل قد يعدها عائقا يقف في طريق التقدم والتطور ومحاكاة القوى العظمى.

وقد نرى من يصف الفريق الأول المدافع عن الهوية بالمنغلق، ويصف الفريق الثاني بالمنفتح، ونسمع أيضا من يقول تراثيين وتغريبيين، أو ماضويين ومستقبليين، أو حالمين وواقعيين، إلخ وغيرها من التسميات والتصنيفات، التي تحيل الموضوع كله إلى مجرد ترف فكري لا طائل من ورائه، ولا فائدة ترجى من طرحه سوى إشعال حروب فكرية وإطلاق تهم متنوعة ليس أقلها التخلف ولا أكبرها العمالة والتخوين.

هذا التناول للموضوع برأيي سببه عدم الانتباه للخطر الذي يتعرض له التنوع الحضاري في العالم، والذي يهدده سيطرة نموذج واحد يسعى إلى إلغاء ومحو حضارات كثيرة في العالم، وفرض رؤاه وقناعاته وفرضياته وأخلاقه وحتى أذواقه وخياراته على الآخرين بقوة السلاح والمال والهيمنة الفكرية والإعلامية، ويكاد يصبغ العالم كله بصبغة واحدة لا تنوع فيها ولا إبداع، بل تبعية وتقليد، وتسلط وتجبر واستغلال، إذ سيطرت قيم المادية والقوة والتجبر وتسليع الأشياء والإنسان مما أدى إلى غياب قيم التراحم والعدل واحترام الإنسان وكرامته، وانتشرت الصراعات والحروب، وتفشى تلوث البيئة وتخريبها، واستنزاف الطاقات، وانتشر الفقر والظلم، وتغوّل العمران والأعمال والأموال، إلخ.

الدفاع عن غزة اليوم هو دفاع عن هويتنا ووجودنا، ورفض للتدجين والانحناء، وهو يعني من جانب آخر احتراما للحضارات الأخرى وتنوعها ولا يعني العداء لها أو الاصطفاف ضدها

غزة إذ تذكرنا بهويتنا

ما يجري اليوم في غزة من إبادة وقتل وتدمير ومساندة للقاتل وتبرير إجرامه، ما هو إلا صورة من صور الهيمنة المقيتة التي تحاول محو الآخر أو تدجينه، وبالمقابل فإن صور الصمود والصبر والتكاتف التي قدمها أهالي غزة ما هي إلا تذكير بضرورة وأهمية الإيمان بحقنا بالحياة والتمسك بهويتنا وكياننا، ففي حالة مجتمعاتنا التي يبحث المخلصون من أبنائها في الطرق الفاعلة لنهضتها فإن الدعوة إلى التمسك بالهوية هو فعل مقاومة، مقاومة ذوبان واختفاء حضارتنا التي ساهمنا من خلالها في التشكيل الإنساني العالمي. وضرورة الدفاع عن هذه الهوية تنبع من أن أي نهضة حقيقية نبحث عنها يجب أن تستند إلى مرتكزات متينة، تكون تربة خصبة للإبداع والمشاركة في الحضارة الإنسانية ككل، وليست قائمة على تقليد ساذج يلغي العقل والمنطق ويحولنا إلى أمة إمعة تسير دون وعي أو إدراك.

الدفاع عن غزة اليوم هو دفاع عن هويتنا ووجودنا، ورفض للتدجين والانحناء، وهو يعني من جانب آخر احتراما للحضارات الأخرى وتنوعها ولا يعني العداء لها أو الاصطفاف ضدها، لكنه رفض للإجرام والتكبر والسيطرة والظلم، فالدفاع عن الهوية والوجود لا يعني عداء للغرب الذي زرع الكيان الصهيوني في منطقتنا ومازال يمده بالمال والسلاح، ولا يعني عداء لحضارته ولا لخصوصيته ولكنه يعني إيمانا بكرامتنا وحقنا وقدرتنا على الحياة كما نريد.

النموذج المسيطر حاليا على العالم لا يمثل الغرب بتنوعاته واختلافاته، ولكنه يمثل نموذجا ماديا متجبرا متكبرا، لا يهتم إلا بالسيطرة وبالمكسب الآني السريع، ولا يعبأ بما يخلفه من مصائب وكوارث، وما يرتكبه من جرائم وظلم لتحقيق مصلحته فقط، وعلى هذا يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن الحفاظ على وجود غزة ومنع إبادتها والعمل على قيامها من جديد يعني دفاعاً عن هويتنا وتأكيدا لحقنا بالحياة، وهو يعني فيما يعنيه دعوة إلى احترام الذات والإيمان بقدراتنا والعمل على استغلال طاقاتنا بما ينفعنا وينفع البشرية جميعها، من أجل تغليب قيم الإنسانية والعدل والتراحم، ومنع التسلط والتكبر والفناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.