شعار قسم مدونات

هل من العادي أن نعتاد؟

صور من استهداف مستشفى كمال عدوان في غزة
الغزيين في غزة ليسوا آبهين في خضم معركة النجاة هذه بأي شيء من هذا (الجزيرة)

في اليوم السادس والثمانين على العدوان سألت صديقتي للمرة التي لا أدري كم، عمّا إذا استطاعت الاتصال بأهلها في غزة، وكنت قد فهمت سلفا أنها اطمأنت عليهم لكثرة ما سهرنا سوية، أعرف من تعابير وجهها إذا اطمأنت عليهم أم لا، ولا أنسى إطلاقا تعابيرها في الأيام الأولى للتوغل، الآن لا جديد تحت الشمس، ننقب عن جديد في جعبة إسرائيل ولا نجد إلا مزيدا من الجماجم.

قرأنا شهادات الناجين من النكبة ومحاولاتهم البقاء على اتصال مع اللاجئين من أقرباءهم في الشتات، من كان بالغا حين طرد، أو من كان طفلا وحظي بألا تفرقه الحرب عن أهله ودياره قبل أن يترسخ في ذاكرته اسمها

اتخذ الموت في غزة صورا لم نكن نتصور وجودا لها إلا في خيالات كُتّاب ومخرجي أفلام الرعب، ولو وجدت، لم يراودنا أن يصفق لها عالم متبجح بفائض المؤسسات التي أقامها ليجعل الحروب آخر الخيارات، سيّما في الدول التي تعير مظهرها أمامه اهتماما على الأقل، لم يتبقى من مشهديات النكبة التي سمعنا عنها من أجدادنا وعاهدنا أنفسنا جيلً بعد جيل ألا تمر مرة أخرى، إلا ومر في غزة، تمثل في كل واحد كل حواريها شيء من فظاعات المسلخ البشري الذي امتد حينذاك ليشمل طول البلاد وعرضها، ويطال من بقي ومن طُرد من أهلها هكذا حتى استحقت أن تسمى نكبة.

قرأنا شهادات الناجين من النكبة ومحاولاتهم البقاء على اتصال مع اللاجئين من أقرباءهم في الشتات، من كان بالغا حين طرد، أو من كان طفلا وحظي بألا تفرقه الحرب عن أهله ودياره قبل أن يترسخ في ذاكرته اسمها، لكن هذا كله نقطة من بحر أن ترتكب المجزرة بينما أنت ترقب التلفاز، وترتقي في اللحظة ذاتها مئات الأرواح وأنت حي، كانوا أحياء قبل قليل، يشاركوننا تفاصيل مشقة البقاء على قيد الحياة على موقع "إكس"، متى أكلوا وشربوا آخر مرة وماذا، أحلامهم المُرجأة لبعد الحرب، من هم أحبابهم، وكم تعبوا في تربية أطفالهم، وكم انتظروا لحظة الإعداد لزواجاتهم، طلبوا منا أن نقلب الدنيا ولا نقعدها وحين يَئِسوا منا، طلب بعضهم أن نرفع أيدينا إلى السماء، واكتفى بعضهم الآخر بالشتائم، ليت دعاءنا جاوز الأسقف وليت شتائمهم طالت سلائلنا كلها لكن لم يرحلوا، كل شيء أسهل من أن يرحلوا.

هذه قطرة مما يمكن يستفيض فيه أي غزّي بعد الحرب، وأقول بعد الحرب لأن الغزيين في غزة ليسوا آبهين في خضم معركة النجاة هذه بأي شيء من هذا، ولأن الغزيين خارجها غير آبهين أيضا بأي شيء باستثناء غير الآبهين، وهم يدركون أن ما نراه نحن غيض من فيض، وأن المطلوب لإكمال الصورة فوق الوصف، وبعد عشرة طويلة بينهم وبين التعرض للخذلان، يدركون أيضا أن المبذول لإيصال الوصف على تعقيده لن ينقذ أحبتهم، لكنهم دونا عن الجميع، لا يجنبهم التعرض للأذى إغلاق التلفاز والنأي بالنفس عن الأخبار.

ينظر للفترات الفاصلة بين المذبحة والأخرى كفترات "استقرار نسبي"، بينما ننظر لها نحن كفترات يأخذ القهر فيها طابعا يمس حياتنا اليومية، تتراجع فيه صورة الجماعة في موضعين في ملحمة وفي مجزرة، وربما في الموضع الثالث الذي هو الحرية

مرت على شعبنا فواجع كثيرة في الفترة الممتدة بين النكبة واليوم هذا الذي يوافق السابع والثمانين للعدوان على غزة. لا الذي هجّر سلم من الموت ولا الذي بقي، لكننا لسبب ما بقينا شعبا لا يعتاد على الموت، ويرفض أن يطبّع مع مشهد دماءه تُسفح، انتحبنا على صبرا وشاتيلا وتل الزعتر كما لو أننا لم نُقتل من قبل، وعبّأنا الكون هجاء حين قصفت غزة بالفوسفور الأبيض عام ٢٠٠٨ كما لو أن الأسلحة البيولوجية لم تجري في ينابيعنا التي نشرب منها في مقتلة عام ١٩٤٨، لم نتغير ولا نفكر في التغير، نرفض التعامل معنا كفئران في مخبر، ككائنات هناك فائض منها ولا ضير لو قلت لصالح أن يختبر الانسان المعاصر -قبح الله وجهه- آخر ما اجترحه من آليات القتل، بيد أننا نتجاهل شيئا من الحقيقة إذا اكتفينا بهذا القول.

ينظر للفترات الفاصلة بين المذبحة والأخرى كفترات "استقرار نسبي"، بينما ننظر لها نحن كفترات يأخذ القهر فيها طابعا يمس حياتنا اليومية، تتراجع فيه صورة الجماعة في موضعين في ملحمة وفي مجزرة، وربما في الموضع الثالث الذي هو الحرية، وهذا التراجع هو ربما ما يخطئ باعتباره "عدما"، فكثير من لا يسمعون بنا إلا حين تشن إسرائيل حربا. إن العدم الذي انفجر منه السابع من أكتوبر وأعقبه العدوان على قطاع غزة، الذي حول أطنان القهر التي كانت توزع على الأيام بالقطارة، إلى قنابل تنهمر كالمطر وصواريخ تسقط من كل حدب وصوب بينما تقارب المراصد بين كميات المواد المتفجرة فيها وبين تلك المطلوبة للقنابل النووية، وتخبرنا أن الذي صُب على رؤوس أهلنا حتى الآن يعادل أربعة منها ونصف.

هذه لغة يفهمونها أو تقربهم للفهم أكثر، أما أنا فكانت مقاربتي بادئ الأمر على النحو التالي:  قريتي قانا يقطنها ٢٢ ألف نسمة، لكي أتخيل ما يحدث في غزة علي أن أتخيل أنها هي ببشرها وحجرها وشجرها مُسحت عن بِكرة أبيها، بأهلي وأحبابي، بحارتي التي ترعرعت فيها وركبت الدراجة لأول مرة، بمنزلنا الذي هو باكورة إنجازات أبي، كان هذا مروعا جدا لكن الارتياع تراجع لصالح مزيد من الفزع الناجم عن الفشل حتى في تحقيق مقاربة، لأنني سرعان ما تذكرت أنه في حالة غزة، ٢٢ ألف شهيد هم جزء من كل، لكل شهيد عائلة وأقارب وأحبة بقوا أحياء يصارعون متواليات الموت ولا يحظون حتى بفرصة إقامة جنازة، لا شيء يمكن أن يصف ما يحدث في غزة، منذ بدء العدوان.

هناك اعتياد نصارعه ويصارعنا نعم، لكنه الوقت المناسب للقول، أنفسنا لأنفسنا وبعضنا لبعض، وأن الذي اعتدنا عليه هو أننا أمام كيان على هذا القدر من الوحشية، لم نعتد لا على مشهد ترابنا مُخضبا بالدم ولا على مشهد جثثنا مكدسة، أرواحنا ليست رخيصة والغزي لم يُعد ليموت

ويبدو أن أشكال الموت بعد فحص فاعليتها أخذت تعيد نفسها، وأخذت انفعالاتنا عند رؤيتها تعيد نفسها بالنتيجة، هكذا حتى وصلنا نحن المراقبون من الخارج إلى حيث يسأل المرء نفسه، سرا أو علانية، هل اعتدت على المشهد؟ وإذا اعتدت فما الذي اعتدته بالضبط؟ أي الأشياء؟ أقرأ هذا السؤال أينما وليت وجهي، وأذكر أنني عايشت شعورا مشابها له حين هوى الطفل المغربي في البئر، لكنني هنا اليوم لأقول شيئا واحدا أدركته: مشاعرنا تميل للتفسيرات الأكثر بساطة، وهي قادرة على صياغة تفكيرنا إذا أفلتت من الضبط الذي على المرء تطبيقه عند إدراكه أن ما يمر به سيترتب عليه شيء.

هناك اعتياد نصارعه ويصارعنا نعم، لكنه الوقت المناسب للقول، أنفسنا لأنفسنا وبعضنا لبعض، وأن الذي اعتدنا عليه هو أننا أمام كيان على هذا القدر من الوحشية، لم نعتد لا على مشهد ترابنا مُخضبا بالدم ولا على مشهد جثثنا مكدسة، أرواحنا ليست رخيصة والغزي لم يُعد ليموت، هذا اعتياد على وحدوية التعريف وتصفية نهائية لكل أعداءه المستخدمين في عقلنة آثام فعلية كالتطبيع ومد سكك الحديد، وأخرى نفسية كالشعور بالصدمة حيال إسرائيل كما لو أنها واحة قيم إنسانية خرجت من جلدها، على هذه الدهشة أن تنتهي لتحل محلها دهشة من نوع آخر، دهشتنا بأننا نحن أمام كل هذا الخطر بلا عُدة ولا أعلام، بل إجابات على قدر السؤال وردود على قدر التحدي، هذا ما يجب أن يستمر في إدهاشنا حتى للحد الذي لا نطيق فيه أن يستمر هذا الهذيان وننهض، ننهض لإعداد ما نرتضيه لأنفسنا، ويثبت أننا فعلً نعتبر الكرامة والحرية كما قال كنفاني، حقا أساسيا بقدر الحق في الحياة، لأننا نستحق أولا، ولأننا لا نملك الإثنين ولا أحدهما لنفاضل أصلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.