شعار قسم مدونات

قُل لي ماذا تعرف عن المنطق؟

الرمادي القاتم يحب مصدر الشر والعدوان ويدعمه من الخلف بكل ما أوتي من حيلة لكنه لا ينفذ الجرائم بنفسه (بيكسابي)

يؤسفني أن أخبرك هذه المرة أن السياق سيكون بعيدا -بعض الشيء- عن مسرحية مدرسة المشاغبين، ولكنه سيكون قريبا جداً لأجواء المسرحية التي اعتاد هذا العالم مشاهدتها بعدد مرات وتكرار أكبر مما شاهد المواطن العربي مسرحية المشاغبين. ذلك أن المشاهدة قد أصبحت عادة يومية باردة، وأحد الطقوس التي يقوم بها معظم سكان الكرة الأرضية، وحتى يطلقوا عليه مسمى لائقا، ادعوا بأنه في لائحة الفاعلية، فالمنطق هنا يقول: إذا تابعت فأنت إنسان خيّر فاعل، على الأقل ستكون أقل سوء من أولئك الذين أغلقوا الأخبار بشكل نهائي، وتقوقعوا في كهوف حياتهم الفردية اليومية، وفي هذا منطق أيضا.

الحالات الخمس لكل فئة منها منطقها الذي تدافع به عن وجهتها، تتمسك به وتعتبره الخيار الأمثل في الحياة

سأخبرك عن المنطق في خمس حالات نعايشها، بل نعيش ضمنها، يحدث أن نقابلهم كل يوم في الحياة أو على شاشات الأخبار، أو نقابل آثارهم، فهناك من يخاطبنا من خلال القصف والصواريخ، وهناك من يشد أزرنا ويكون خير مساند، هناك من يدعي أنه لم يسمع بمآسينا، وهناك من يقلقه حالنا ويحاول إيجاد مخرج، أياً كانت أحوالهم يمكنك أن تقرأ وتفتش عن اللون الذي يمثلك بينهم.

  • الحالة الأولى: اللون الأسود القاتم، هكذا يطيب لي أن أسميه، وهي حالة الانحياز للشر بشكل مطلق، ومنطق من يختار هذا الانحياز يعود إما لانتماء أعمى لمن يسلك مسلك الشر، فتغيب عن الأتباع الحيلة أو القدرة عن التفكير والتمييز بين الخطأ والصواب، أو يعود لرغبة في اتباع الأقوى مهما كان اتجاهه أو قيمه، وقد ينحاز الناس للشر لضعف وقلة حيلة ولمخاوف من أن تطالهم سطوته فتؤذيهم فيتحولون إلى أتباع مصابين بالعمى، أو أبواق يسبحون بحمد المجرمين وما أكثرهم.
  • الحالة الثانية: الرمادي القاتم: إنه يحب مصدر الشر والعدوان ويدعمه من الخلف بكل ما أوتي من حيلة، لكنه لا ينفذ الجرائم بنفسه.
  • الحالة الثالثة: فحالة الرمادي المتوسط: فهو لا ينحاز للشر أو الخير، بل لا علاقة له بالمسألة تماما، لا يأبه للقضايا المصيرية في واقعه، ولا تلفته متغيرات العالم، هو فعليا لا يدرك لم يعيش وما هو هدف وجوده من الحياة، لا يعبر عن رأي لأنه لا يمتلكه، وأحيانا يحاول ذلك لكنه يستعير مقولات وآراء الآخرين التي تعزز موقفه بعدم المبالاة بشيء، ومرافقة الحائط سكونا وجمودا في سبيل النجاة.
  • الحالة الرابعة: حالة الرمادي الفاتح: هذه الفئة تنحاز إلى جانب الحق، وتهتم بالقضايا المصيرية، تتألم كثيراً وتعاني وتذرف الدموع، ولكنها تعيش في زنزانة من الوهم والحيرة، فلا تجد ما تفعله ولا ما تقدمه، وهي إن شاهدت من يتحرك ويقوم بفعل حقيقي جاد فلا تتردد بانتقاده وإشعاره أنه يقوم بفعل فاشل لا أمل من نجاحه، وهذه الفئة كثيرة أيضا قد تشمل السواد الأعظم من البشر، إن لديهم قيم طيبة، لكنها بلا حراك، ولديهم أفكار، لكنها بلا فاعلية.
  • الحالة الخامسة والأخيرة: حالة الأبيض الناصع: إذ لا سواد فيها ولا كدر، تقتبس هذه الفئة من البشر صدقها ونقاءها من إيمان مطلق بضرورة العمل، وأهمية التغيير، تبذل جهدها ووقتها وطاقاتها في محاولة جعل العالم مكانا أفضل للعيش، تدافع باستماتة عن القضايا المحقة، ولا تبالي بالمخاوف التي تواجهها لأن يقينها بما تقوم به أعلى، ولا يخيفها الموت في سبيل تحقيق رسالتها في هذه الحياة، إنها لا تجعل الموت هدفا، بل تهتم بجعل الحياة الحرة الكريمة هي الهدف الذي تسعى لتحقيقه، وقد تخطئ أو تضعف أحيانا، لكنها تعود فتتدارك ما وقعت فيه وتتابع العمل والبذل.

الباطل قد يعتقد نفسه قد انتصر في جولة أو جولتين أو ربما أكثر، لكنه في الحقيقة مهزوم وساقط في إنسانيته وفي غاية وجوده، ساقط كإنسان عاجز أن يتمثل إنسانيته في اختياره وسلوكه وأفعاله، أما الحق فانتصاره لا يرتبط بمعارك جزئية، هو منتصر بذاته

هذه الحالات الخمس لكل فئة منها منطقها الذي تدافع به عن وجهتها، تتمسك به وتعتبره الخيار الأمثل في الحياة، وقد تأتي لهذه الحياة وهي ضمن إحدى الحالات السابقة، ثم يطرأ تغيير ما على تفكيرها فتصبح في خانة أخرى، فنجد بعض الناس تنقلب من الخير إلى الشر أو العكس، لحدوث زعزعة ما أو تغيير يطرأ في قناعاتها، ومن أجل هذا التغيير تتجند كوادر الدول والأمم والشعوب كي تحشد معها النوع والعدد الأكبر من الطاقات والموارد البشرية، لعلمهم أن المنتصر هو من يملك القوة، أما الضعفاء في حالة الخير أو الشر فإنهم يهزمون، ولكن مهلا، هناك فارق واحد بين القطبين المتباعدين، الأسود والأبيض، الظلام والنور، الحق والباطل، فالباطل قد يعتقد نفسه قد انتصر في جولة أو جولتين أو ربما أكثر، لكنه في الحقيقة مهزوم وساقط في إنسانيته وفي غاية وجوده، ساقط كإنسان عاجز أن يتمثل إنسانيته في اختياره وسلوكه وأفعاله، أما الحق فانتصاره لا يرتبط بمعارك جزئية، هو منتصر بذاته، بقدرته على المقاومة والمتابعة وعدم الاستسلام، بقدرته على الدفاع عن قيمه العظيمة باستماتة، وبقدرته على ترك الأثر وتوريثه جيلا بعد جيل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى في سورة الأنبياء: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.