شعار قسم مدونات

عن النضال اللغوي وعقدة الفصاحة المسرحية (1)

مخطوط باللغة العثمانية يعود إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادي
تولّت حركات في الاتجاه المقابل تدعو إلى العودة إلى العربية الحديثة لغةً لا للتخاطب الرسمي والثقافي (الجزيرة)

قبل فترة خضت وبُنَيَّ نقاشا حول تعريب مصطلحاتنا في التعامل اليومي، لنصل بها إلى خطاب عربي صاف بعيدا عما انتقل إلينا من لغات أخرى، واتفقنا أن نفعل ذلك مشاركة بسيطة في المعركة التي يخوضها إخوتنا في فلسطين الحبيبة، ولربما تبدو هذه المشاركة غريبة، فما فائدة تغيير الألفاظ والتراكيب وإخوتنا يلفظون أنفاسهم الأخيرة أمام بيوتهم المهدومة؟! وما الغاية من الإعراب والإفصاح والاصطلاح، والعالم قد اصطلح على تدمير بيت المقدس وأكنافه؟!

حمت حركات التطوير تلك اللهجات العربية من أن تتطور إلى لغات، ونتج عنها واقع ازدواجي قبلته الشعوب، وهو أن اللغة المحكية اليومية مختلفة عن اللغة الرسمية التي تستخدم للثقافة العالية والعلوم والتقنية وغيرها.

دعوني أعد قليلا إلى الوراء، إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين كانت الدول العربية تخوض معارك كثيرة  في العديد من المجالات، عسكريا وسياسيا وقانونيا، إلا أن أحد المعارك المهمة التي كنا نخوضها هي معركة الهوية اللغوية، فالشعور القومي وقتها وبعض السلوكات الاستخرابية من قبل المحتلين كالفرنسيين والبريطان وغيرهم، والتي أرادت أن تزيل الهوية العربية من خلال تغيير اللغة، أدت إلى نهضة لغوية تهدف إلى استعادة العرب لوجودهم من خلال استعادتهم لكيانهم اللغوي، الذي عرفوا جميعا أنه العامل الذي يجمع أبناء العروبة.

و-العروبة هنا لم تعني في بدايتها الحدود القومية الضيقة، بل الآفاق اللغوية الواسعة-، ولذلك فإننا نرى أن رواد العربية كانوا على "الثغور اللغوية" للعالم العربي في لبنان والشام ومصر وشمال أفريقيا، والتي كانت فيها اللهجات قد وضعت على مسار مؤدي إلى استحالة اللهجة لغةً، فاللغة بتعريف بعض اللغويين " لهجة ذات جيش"، أي أنها لهجة يحميها كيان سياسي مستقل مما سيؤدي إلى تطورها مع الوقت ليكون لها كيانها الخاص، تماما كما حصل مع اللاتينية، والتي كانت الفرنسية والإسبانية لهجات منها.

حينئذ هب للعربية مجددون ليأكدوا على وحدتهم من خلال "العربية المعيارية الحديثة"، والتي تطورت بناءً على الأصول التراثية، لتصبح البنت الشرعية للعربية "التراثية" إن صح التعبير، وهي بتعبير عباس السوسوة "فصحى العصر الذي نعيشه، فهي السجل المكتوب لثقافة العصر. وصلة العربية المعاصرة بالفصحى المثالية كصلة الابن بأبيه، يحمل الابن صفات وراثية وثقافية عن الأب ويختلف عنه في أنه يعيش في زمن غير زمن أبيه. واختلاف الزمن يحمل في طياته اختلافا في الرؤية والتفكير وفي أمور الثقافة جميعا".

حمت حركات التطوير تلك اللهجات العربية من أن تتطور إلى لغات، ونتج عنها واقع ازدواجي قبلته الشعوب، وهو أن اللغة المحكية اليومية مختلفة عن اللغة الرسمية التي تستخدم للثقافة العالية والعلوم والتقنية وغيرها. لكن هذا بدأ بالاهتزاز تحت ضغط العولمة والقوى الغربية والهويات الفرعية التي من مصلحتها نشوء لغات فرعية لارتباط اللغة العربية بالهوية العربية والإسلامية، فبدأنا نرى المحاولات المستمرة لتحويل اللهجة المصرية إلى لغة، والدارجة المغربية إلى لغة، والعامية الشامية إلى لغة، وهكذا.

إن "مَسْرَحة اللغة" هو الحاجز الأكبر الذي يمنعنا من توظيف لغتنا في يومنا، وهو حاجز بنته الكثير من المواقف، والعديد من الشخصيات من باب حرصهم على صورة مثالية للغة العربية، وهي صورة لم يتحدث بها أي أحد، ولا أعراب البادية يوما.

وقد ولّد هذا حركات في الاتجاه المقابل تدعو إلى العودة إلى العربية الحديثة لغةً لا للتخاطب الرسمي والثقافي، بل في الاستعمال اليومي العملي، وقد تلقت تلك الدعوات دعما ومعارضة، وكلهم له رأيه، إلا أنني أرى نفسي مع إكمال المسيرة النضالية التي بدأها المجددون قبل أكثر من مئة عام بسحب العربية الفصيحة إلى المجال اليومي بدل سحب العامية والدارجة إلى المجال الرسمي، وذلك لأسباب كثيرة؛ منها أنها عامل يوحد، بينما تعمل اللهجات على التفريق. ومنها أنها تعين على قراءة التراث والتاريخ، واللهجات تعيق وتبطئ. ومنها أن الوعاء اللغوي في الفصيحة أوسع، فهو يشرب من بحر لا ساحل له، أما اللهجات فهي محاولات للتكيف. واللهجات لها احترامها وتقديرها، والوقوف عند معانيها ومبانيها واجب لكل دارس يريد الفهم، إلا أن نقلها إلى المجال الرسمي سيولد انقطاعا كبيرا بين المستقبل وأبيه، وهي معرضة -بسبب طبيعتها التكييفية- إلى التأثر بالتسلط الثقافي الغربي بشكل كبير، ولو أنها لاذت بالفصيحة، لوقفت العربية قلعة تحميها وأبناءها من نير الغاصبين.

مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي وصلنا إلى تحد جديد وفرصة جديدة، فالكل متصل بالكل، والكل يرى كم يفهم بعضنا بعضا، وكم يشبه بعضنا بعضا، حتى أن معظمنا يتحدث لهجات العرب الآخرين كلاما أو فهما، وفرصتنا اليوم أن نكمل نضال الأولين فنعود إلى ما يجمعنا ونترك ما يفرقنا. فالحقيقة أن ما نتعرض إليه اليوم في المجال اللغوي على مستوى الأمة والمجتمعات والأفراد هو إبادة أيضا، لكن تلك الإبادة بطيئة وواثقة ولا ينتبه إليها الإعلام، إنها إبادة لهويتنا ووجودنا الثقافي واللغوي الذي يمثل الركن الركين لوجودنا كحضارة بين أمم الأرض.

أسمعك تقول: كيف نترك اللهجات؟ أنترك اللغة التي نستخدمها يوميا وننقلب ممثلين مسرحيين في بيوتنا ومع أولادنا؟! أقول لك إن معك حقاً في هذا التساؤل، فقد شوهنا استخدامها. فكل من يحاول تحدث العربية اليوم ينقلب إلى مؤدٍ، يحرص على ضبط المخارج ويقلقل ويدغم، وهذا من تقصيرنا، ولربما يكون هذا أعظم جرم ارتكبناه في حق لغتنا، إذ قلبناها فقرة في أداء مسرحي لا تصلح للتعامل اليومي، ويؤدي تطبيقها إلى سخرية من الباعة في السوق أو من مراري الطريق.

إن "مَسْرَحة اللغة" هو الحاجز الأكبر الذي يمنعنا من توظيف لغتنا في يومنا، وهو حاجز بنته الكثير من المواقف، والعديد من الشخصيات من باب حرصهم على صورة مثالية للغة العربية، وهي صورة لم يتحدث بها أي أحد، ولا أعراب البادية يوما. ولسوف أحدثكم عن هذه المَسرحَة في أسبوعنا القادم، إلا أنني أود أن نتفق أولا على أهمية العودة إلى قلعتنا الحصينة وحضن أمنا الغالية. ثم نتفق لاحقا على التفاصيل. فهلا فعلنا ذلك براً بها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.