شعار قسم مدونات

المسلمون والأخلاق.. سؤال الفاعلية!

لا يستطيع القانون أن يصون المجتمع بدون الأخلاق فالأخلاق لها سلطان على النفوس وقوة تحفظ الجميع (غيتي إميجز)

من أكثر الأحكام تعميما وتعمية برأيي اليوم، الحكم الذي يطلق على المسلمين بأنهم بعيدون عن الأخلاق الحسنة والالتزام بها. وهناك من يستشهد بتصرفات كثيرة تظهر ذلك، خاصة لمن يعدّون ملتزمين دينياً بحكم السمت العام أو التصرفات الظاهرة، ويضاف إلى ذلك الاستشهاد بتصرفات أخرى أخلاقية تماما لمن هم بعيدون عن الالتزام الديني تُظهرهم بمظهر أصحاب الخُلق الرفيع.

ورغم أن الإسلام أكثر الأديان الداعية للالتزام بالأخلاق الحسنة، لكن المجتمعات الإسلامية تعاني من سيادة سلوكيات بعيدة عن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، فهناك غش وكذب وأكل لأموال الناس بالباطل، عدا عن سوء الظن وفقدان الثقة وعدم الوفاء بالوعد وغيرها من السلوكيات التي تنتشر انتشارا واسعا، وتترك آثارا سيئة على كل المستويات.

من أبرز أسباب انتشار سلوكيات لاأخلاقية فصل الأخلاق عن الدين استجابة لمقتضى الحداثة والأنوارية ومقتضى شعار "فكر بنفسك ولا تنتظر وصاية أحد عليك"

عمليا لا يمكن أن ننكر وجود خلل في التزام المسلمين بالأخلاق الحسنة في تعاملاتهم العامة، لكن التعميم فيه تجنٍ وتجاوز، كما أنه فيه اختزال مخلٌّ للأسباب الدافعة لذلك، وأظن أن هناك أسبابا كثيرة لانتشار سلوكيات لا أخلاقية في المجتمعات الإسلامية، منها سببان رئيسان وفق وجهة نظري:

أولهما: الظلم الذي يتعرض له كثير من المسلمين داخل بلادهم وخارجها، ما يجعلهم لا يتخلقون بالأخلاق الحسنة، لأنهم ينظرون للآخرين على أنهم شركاء في ظلمهم، بينما قد يتخلق المسلم بالأخلاق الحسنة على المستوى الشخصي الذاتي وهذا الملاحظ غالبا، لكنه مع الجماعة ليس كذلك. لذلك فإن إقامة العدل في المجتمع المسلم خطوة أساسية من أجل تفعيل الأخلاق على المستوى العام، وجعلها موجّها للسلوكيات العامة.

والثاني: فصل الأخلاق عن الدين استجابة لمقتضى الحداثة والأنوارية ومقتضى شعار "فكر بنفسك ولا تنتظر وصاية أحد عليك"، أسهم في عقلنة وعلمنة الأخلاق عموما وفصلها عن الدين لتصبح كأنها معانٍ داخل المجتمع وداخل الحياة الخاصة، وليس لها ارتباط ديني، ومع غياب سيادة القانون وضعف مؤسسات التعليم وغيرها، ضعُف الالتزام بالأخلاق الحسنة على المستوى العام عموما.

الإسلام والأخلاق

بعض المنتقدين لضعف الالتزام الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية يوجهون سهامهم للإسلام ذاته، ويعدونه دينا لا يحض على الأخلاق، أو على أقل تقدير ليس فيه إلزام بذلك، وحقيقة فإن الإسلام باعتباره الدين الخاتم للديانات السماوية، يستقل عنها بأنه يضيف إلى إمكاناتها الأخلاقية إمكانات أخرى، فالأخلاق تتراكم كما تتراكم الخبرات الإنسانية. كما أن الشريعة الإسلامية تنبني على المقاصد الضرورية الخمسة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، وكل تعاليم الإسلام تهدف إلى تحقيق تخلُّق أعلى ينعكس على شكل سلوك يحقق المقاصد الضرورية للإنسان والإنسانية جميعا، وهو ما لا يوجد في الديانات الأخرى، لذلك فالأخلاق الإسلامية أعمق من سابقاتها في الديانات الأخرى، وأكثر حركية وقدرة على أن تكون قابلة للتطبيق والالتزام بها في الحياة العامة والخاصة، فالإسلام دين البشرية جمعاء، والقيم التي تساند الأخلاق الإسلامية قيم كونية موجهة للبشر جميعا ما يعطي الأخلاق في الإسلام زخماً أكبر. يقول الإمام الشاطبي: "الشريعة كلها إنما هي تخلُّق بمكارم الأخلاق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

إن مجتمعاتنا بحاجة لقوانين ضابطة، فالقانون قد يكون تقنينا للأخلاق بإخضاعها للجزاء، صحيح أن القانون ينتقي بعض الأخلاق ويخضعها للعقاب فقط في حالات وشروط معينة، ويترك كثيرا من الأخلاق خارج نطاق عمله.

الأخلاق وسؤال الفاعلية

الأخلاق مرتبطة بالسلوك ارتباطا وثيقا وهي تشمل جميع أفعال الإنسان، ابتداء من الفعل النظري (التفكير) فهو فعل خلقي يقتضي بموجب كوننا بشراً أن نحكم وننظر في المصلحة التي يجلبها لنا الفعل الذي ننوي القيام به، أو المفسدة التي يدفعها عنا، وبهذا يصبح هذا التفكير فعلا خُلقيا، والمسلم مأمور بضبط هذا التفكير ليشمل المصلحة العامة، وعدم الإضرار بالآخرين وليس فقط تحقيق المصلحة الخاصة، لذلك كانت الأخلاق هي التي تحدد إنسانية الإنسان، وليس كما يقرر الفكر الغربي أنها العقلانية، فنحن نصف التصرفات اللاأخلاقية بأنها تصرفات لا إنسانية، ولا نصفها بأنها تصرفات لا عقلانية أو لا قانونية، وعلى هذا كلما زاد الإنسان تمسكا بالأخلاق فهما وممارسة كلما زادت إنسانيته. والمجتمع الذي تسود فيه الأخلاق الحسنة سيكون مجتمعا إنسانيا يشد بعضه بعضا، لذلك فالتمسك بالأخلاق الحسنة في المجتمعات الإسلامية يحتاج إلى فئة قدوة تمارسه وتنشر فهمه، ليصبح سلوكا عاما ولا يبقى ضمن نطاق الدائرة الفردية للمسلمين.

من جانب آخر فإن مجتمعاتنا بحاجة لقوانين ضابطة، فالقانون قد يكون تقنينا للأخلاق بإخضاعها للجزاء، صحيح أن القانون ينتقي بعض الأخلاق ويخضعها للعقاب فقط في حالات وشروط معينة، ويترك كثيرا من الأخلاق خارج نطاق عمله. فمن غش واستطاع ستر غشه مثلا، لا يعاقبه القانون، إلا أن وجود القانون وطريقة تنفيذه والتزام الناس به، يساعد على تفعيل الأخلاق الحسنة في المجتمع.

ختاما، لا يستطيع القانون أن يصون المجتمع بدون الأخلاق، فالأخلاق لها سلطان على النفوس وقوة تحفظ الجميع، وأما القانون فلا يملك تلك القوة، فهو قابل للاختراق وحمايته لا تشمل جميع الناس، والأخلاق أقرب إلى النفس البشرية والفطرة، التي تخضع لها طواعية. بينما القوانين ليست كذلك؛ ولذا فإن القانون لا يستطيع السيطرة على الفرد، ولا مراقبته في كثير من الحالات، بينما يكون للأخلاق سلطان داخلي ذاتي، فإذا استطاع الفرد الالتفاف على القانون للتخلص من عقابه دون أن يشعر بذنب، فإن التفافه على الضوابط الأخلاقية يبعث في نفسه شعورا بالذنب، وحاجة للتطهر.

وأيضا القانون لا يتجاوز الظاهر، وهو قاصر ووقتي ينتهي زمنه بالتقادم، أما الأخلاق فإنها تحفظ الظاهر والباطن، وهي قوة مانعة تقف في وجه الخطأ في كل وقت وعلى مر الزمن. والأخلاق أقرب إلى الفضل منها للعدل وتحض على التآلف، أما القانون فهو صلب جاف، وتطبيقه يخلو من المرونة، ويبعث على التباغض والنفرة. والمجتمع الذي يحكمه القانون فقط دون أن يكون للأخلاق فيه وجود فاعل، هو مجتمع جاف مادي ميت، يخلو من التراحم والتسامح والإنسانية، ولكن مع ذلك فإن وجود القانون بحد ذاته أمر مطلوب وضروري، كما أن أحكامه التنفيذية وطريقة تطبيقه تسهم في تقبل الناس له وانصياعها لأحكامه، وهو ما يساعد كثيرا على الالتزام بالسلوكيات الأخلاقية الضابطة.

وعليه، فإن من أهم واجباتنا كمسلمين العمل على تفعيل سيادة القانون في بلادنا، بالتزامن مع نشر الأخلاق الحسنة والتبشير بها وتفعيلها في تعاملاتنا كلها، وتربية أبنائنا عليها فهما وسلوكا. بل إن من أعظم واجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه العالم اليوم أن نبين جوانب النظرية الأخلاقية في الإسلام وطرق تفعيلها، والتي تقوم على أسس عدة بيّنها صاحب كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" وأهمها: الإلزام الذي يأخذ مصدره من الأمر الإلهي، الذي ربط كل حكم بما يسوغه ويضبطه، والنية الخالصة لله والتي إن خلا الفعل منها يكون باطلا، لأنها تحدد الهدف المطلوب وتركز على الغاية المرجاة ولا تتجاهل المسؤولية عن الفعل، والجهد الذي ندفع به الميول السيئة لفعل الشر، والذي يعتمد على اختيار حر، واختيار صالح، وسعي نحو الأفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.