شعار قسم مدونات

الدولة الوطنية العربية الحديثة أمام واقع جديد

المقاومة في قطاع غزة اجترحت معجزة فقد حولت شريطا ساحليا ضيقا إلى معقل للمقاومة الدفاعية (وكالة الاناضول)

أليس هناك مخرج عملي من قيود المعادلة التي تحدثت عنها في المقال السابق والتي ملخصها: عمل المقاومة يحتاج دولة ضعيفة أو حتى فاشلة، والدولة حين تكون سلطتها ضعيفة وهيبتها غير موجودة فإن إسرائيل تتجرأ عليها، وهي ستغدو مكانا للاقتتال الداخلي والانقسامات الطوائفية أو العرقية أو السياسية وذات اقتصاد عنوانه الفقر والبطالة وتراجع قيمة العملة، وانعدام الأمن الفردي للمواطن؟

وجود إسرائيل في قلب المنطقة العربية، كقاعدة حديثة متطورة للنظام الكولونيالي الغربي جلب لشعوب المنطقة ومكوناتها مشكلات بل كوارث سياسية واقتصادية متوالدة.

فتش عن إسرائيل؟

إن التفكير بمعطيات المعادلة أعلاه، هو أشبه بالحديث عن أعراض المرض، لا عن أسبابه، وأي علاج يظل أشبه بإعطاء المريض مسكنات للألم، ما لم يتم التعامل مع جوهر المرض، وفي حالتنا نحن أمام معضلة أخرى تتمثل بعدم قناعة قطاع لا يستهان به من العامة والخاصة بأن أصل المرض هو (إسرائيل).

إن وجود إسرائيل في قلب المنطقة العربية، كقاعدة حديثة متطورة للنظام الكولونيالي الغربي جلب لشعوب المنطقة ومكوناتها مشكلات بل كوارث سياسية واقتصادية متوالدة.

وحين تتبلور قناعة مطلقة بهذه الحقيقة لن نحتاج إلى نقاش من قبيل خيارين أحلاهما مر، وقد فجّرت عملية (طوفان الأقصى) والعدوان الهمجي على غزة، فرصة للإجابة عن أسئلة عدة ظلت محل نقاش وتداول وخلاف فترة طويلة، وكشفت حقائق عدة، منها ما كان صادما إلى أبعد مدى؛ مثل ظهور الدولة الوطنية العربية الحديثة كحارس لأمن إسرائيل، أو عاجز عن مساعدة الأبرياء في غزة ولو بشربة ماء.

عدم القيام بجهد إغاثي، وهو أقل الواجب لأهل غزة الذين يعانون الجوع، ويضاف إلى ذلك قيام جنوب أفريقيا البعيدة عن المنطقة برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة الجماعية في غزة

انفراط العقد الاجتماعي

وهو شيء غير مسبوق؛ ذلك لأن الدولة العربية القُطرية، دأبت ولعقود من الزمن على إظهار مساعدتها للشعب الفلسطيني ودعم حقوقه المشروعة، والتباهي بما تقدمه من معونات، حدّ المنّ الذميم.

وكأنها بلسان الحال تقول: لا قبل لنا بإسرائيل وجيشها العرمرم، وبالتأكيد لا طاقة لنا بأمها أمريكا، ولكننا ندعم شعب فلسطين بمساعدات مالية وإنسانية، وندافع عن حقوقه في المحافل ومن على المنابر الدولية، وقد كانت هذه الحجة –إلى حد ما- مقبولة عند شعوب العرب، بل عند جزء من الشعب الفلسطيني.

ولكن الأشهر الأخيرة مزّقت هذه السردية؛ فقد اتضح أن جيش إسرائيل ليس قوة خارقة، وهو يتلقى الضربات ويتكبد الخسائر من حركة مقاومة محاصرة لا تقارن بما ينفق على موازنات التسلح عربيا.

وعدم القيام بجهد إغاثي، وهو أقل الواجب لأهل غزة الذين يعانون الجوع، ويضاف إلى ذلك قيام جنوب أفريقيا البعيدة عن المنطقة برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة الجماعية في غزة، في وقت لم يصدر بيان تأييد للخطوة من الأمانة العامة للجامعة العربية، واكتفت أقطار عربية وضعها السياسي والقانوني يسمح لها بأن تقوم بما قامت به جنوب أفريقيا بالتفرج السلبي.

والأدهى والأمر هو أن الدولة العربية الحديثة تمتاز عموما بالصبغة البوليسية القمعية، وتكميم الأفواه، وقمع شديد لمن يجرؤ على انتقاد بسيط لسياساتها وشخوصها، تنطلق منها حملات إعلامية مقززة تنتقد الضحية (أهل غزة) وتبرر بل تدافع صراحة أو ضمنا عن الجلاد الإسرائيلي، وتجرّم المقاومة  الفلسطينية (خاصة حركة حماس) تارة عبر اتهامها بالتسبب عبر (المغامرة) بما يجري من مجازر، وتارة عبر الاتهام الممجوج أن المقاومة تعمل وفق إيقاعات الساعة الإيرانية؛ وكأن قضية فلسطين بدأت منذ السابع من أكتوبر 2023 أو كأن مقاومة الشعب الفلسطيني بدأت مع رحيل نظام الشاه في طهران.

اعتبار هذه الحملات جزء من حرية الرأي والتعبير، هو نكتة وكوميديا سوداء، فحرية الرأي يفترض ألا تتجزأ؛ فدولة تمنع انتقاد مواطن بسيط لارتفاع الأسعار ووضع البنى التحتية في منطقة سكنه، لهي قادرة عن منع (ناشط) أو إعلامي من بث هذه السموم. وهذا معناه أن العقد الاجتماعي لدولة ما بعد الاستعمار العربية يكاد ينفرط تماما؛ فهي لم توفر لمواطنها-عموما- عيشا كريما وحرية اختيار حقيقية لنظام حكمه، ولم تتصدى ولو بأدنى جهد وأقل تكلفة للعدوان الإسرائيلي.

وكل ما تتسلح به -إضافة لأدواتها السلطوية القمعية- هو التخويف من حلول الفوضى، والتهديد بمصير أقطار أخرى في المنطقة العربية، وهذا التهديد كان مجديا قبل مرحلة (الطوفان) وتفاعلاته.

استغل مقاتلو طالبان الثغرات في أجهزة باكستان، والفوضى والفساد فيها، وأمورا أخرى في حربهم ضد الوجود الأمريكي في أفغانستان، وتمكنوا من تحقيق النصر بعد عشرين سنة من القتال الاستنزافي.

حاجة المقاومة الفلسطينية

استغل جمال عبد الناصر أفول نجم الاستعمار الأوروبي (بريطانيا وفرنسا خاصة) وقدم الدعم والإسناد لثورة التحرير الجزائرية (1954-1962م) وفي ظل الحرب الباردة دعمت موسكو وبكين ثوار فيتنام، وأطراف مختلفة دعمت الثوّار الأفغان ضد الغزو السوفياتي، وأهمهم الجارة باكستان، التي سمحت لهم بالتحرك العسكري العلني من أراضيها، ضمن صيغة علاقاتها مع واشنطن.

واستغل مقاتلو طالبان الثغرات في أجهزة باكستان، والفوضى والفساد فيها، وأمورا أخرى في حربهم ضد الوجود الأمريكي في أفغانستان، وتمكنوا من تحقيق النصر بعد عشرين سنة من القتال الاستنزافي.

وفي الحالات المذكورة نرى عاملين في غاية الأهمية لنجاح واستمرارية المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي: وجود دولة أو دول عظمى أو إقليمية تدعم المقاومة، ووجود بيئة وتضاريس ومساحات تساعد المقاومين؛ ففي الجزائر وأفغانستان مساحات شاسعة وجبال وعرة وتضاريس صعبة وحدود يصعب السيطرة عليها بنسبة كبيرة مهما كانت التقنيات، وفي فيتنام غابات وأدغال تاه الأمريكان فيها.

وفي حالة فلسطين فإن الأمر في غاية التعقيد؛ ذلك أنهم يواجهون كيانا تتوافق الدول العظمى على وجوده مبدئيا، وتوفر له أميركا وأوروبا كل مقومات الوجود والتفوق النوعي عسكريا واقتصاديا وتقنيا، وهو مجتمع عسكري استيطاني اقتلاعي إحلالي، وليس قوة أجنبية غازية كما حالات أخرى ذكرتها أو لم أذكرها.

كما أن تضاريس فلسطين لا تسمح بما سمحت به تضاريس أفغانستان وفيتنام، إضافة إلى الانتشار العسكري الاستيطاني، ما جعل مهمة المقاومة في منتهى الصعوبة والتعقيد.

ولكن المقاومة في قطاع غزة اجترحت معجزة، فقد حولت شريطا ساحليا ضيقا إلى معقل للمقاومة الدفاعية، ومؤخرا الهجومية، مستخدمة سلاح الأنفاق متقنة الصنع ومتعددة الأهداف، وتمكنت من توفير السلاح بالتصنيع المحلي الذاتي و(الهندسة العكسية) وبتهريبه بطرق معقدة ومكلفة.

ولكن تظل المقاومة بحاجة إلى إسناد ودعم خارجي، خاصة أنها مسؤولة عن عدد كبير من المدنيين وهم خزانها البشري وحاضنتها الشعبية، وهؤلاء كانوا بمثابة (اليد المكسورة) التي ركزت إسرائيل جهدها في معاقبتهم، وذلك بحصار قاس منذ 17 سنة تخللته حروب وجولات قتال نجم عنها قتل ودمار، وحاليا باستهدافهم وممارسة الإبادة الجماعية ضدهم، وصار حجم القتل والدمار يفوق الوصف، كما نعلم.

وهذا يجعل الدولة الوطنية العربية الحديثة أمام معادلة جديدة، لا يمكن للمخاتلة القائمة تجاوزها، لأن (الطوفان) خلق واقعا جديدا تماما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.