شعار قسم مدونات

عن الفقد والوجع.. رسالة إلى وائل الدحدوح

الزميل وائل الدحدوح
الزميل وائل الدحدوح (الجزيرة)

العزيز وائل..

لم أجد في نفسي القوة لأعزيك في مصابك الجلل، ولا الجلد لأواسيك في ما أنت فيه من قهر وحزن. في الواقع، يجب أن أعترف بأنني لم أحسن يوما "حرفة" التخفيف عن الآخرين في ما ألم بهم من مصاب أو كرب. فطالما انفلتت عبراتي وسبقتني دمعتي لا قدرة لي على حبسها أو صدها، وظني أن الكثير من زملائنا ومن أحبائك خانتهم القوة والشجاعة لينضموا إلى قوافل المعزين والمواسين.

 

حتى قتلة عائلتك وجلادوك ومن تآمر معهم من العرب والعجم أخالهم مشدوهين بل ومصدومين، وهم يرون كيف أن الأرزاء، وقد تكالبت عليك، لم تفت عضدك

عنَّ لي حينها أن أبعث لك رسالة نصية، فخشيت أن تضيع في زحمة آلاف الرسائل التي تتدفق عليك كل يوم. شعرت أيضا أنها لن تكون أكثر من عبارات جوفاء وبلهاء كتلك التي دأب الناس على تبادلها في الأحزان كما في المسرات.

ثم رأيتك، كشجرة زيتون سامقة، تنهض من جديد، وأنت في غمرة الحزن والأسى، تنبعث بجسدك المتعب وسط الركام والدخان، شامخا، أبيا، رابط الجأش، بعد أن واريت الثرى فلذة كبدك البكر حمزة، كما فعلت من قبل مع زوجتك وابنك وابنتك وحفيدك. يا الله كم هي طويلة قائمة من انتزعهم منك الموت. فسموت في عيني وفي قلبي كما سموت في عيون وقلوب الملايين ممن أبهرتهم قدرتك الأسطورية على الصمود.

حتى قتلة عائلتك وجلادوك ومن تآمر معهم من العرب والعجم أخالهم مشدوهين بل ومصدومين، وهم يرون كيف أن الأرزاء، وقد تكالبت عليك، لم تفت عضدك، بل زادتك قوة وصلابة وتصميما على استكمال رسالتك الإنسانية من خط النار. لا يضاهي وفاءك لإرث أحبتك، إلا وفاؤك لمهنة أحسب أنها اختارتك قبل أن تختارها أنت.

حتى الموت وهو يقتص من قلبك وبدنك لم يثنك عن مواصلة المشوار. هل أنت منا يا وائل؟ هل تشبهنا؟ ما بالهم بك ينكؤون جراحك بهذا القدر من السادية؟

العزيز وائل..

بينما نلقي التحية على ذوينا عند الصباح، نودعهم، ونربت على أكتافهم برفق، نلاعب أطفالنا، وتنزلق أصابعنا بين خصلات شعرهم، نلثم جبين زوجاتنا، ونجلس في كراسينا الوثيرة في أماكن العمل، نرشف القهوة والشاي، نحدق في حلقات الدخان المتصاعدة من سجائرنا، نثرثر بصخب أو نقهقه، تزجية للوقت أو طلبا للراحة، نخطط لعطل الصيف أو نختار القميص الذي سنرتديه في اليوم الموالي، وعطورا فواحة نتباهى بها، تأبى وأنت حبيس متاهة الموت الزؤام، إلا أن تطل علينا من الشاشة كل عشية، وقد أجلت مشاريع الحزن ومداواة الروح، وتعاليت على جروحك الدفينة لتذكرنا بأن هناك في غزة الجريحة قصصا ومآسٍ لتروى، وتعيدنا عنوة إلى واقع مرير يحاول الكثير منا تناسيه والتطبيع معه أو القفز عليه، لقساوته وفظاعته.

حتى الموت وهو يقتص من قلبك وبدنك لم يثنك عن مواصلة المشوار. هل أنت منا يا وائل؟ هل تشبهنا؟ ما بالهم بك ينكؤون جراحك بهذا القدر من السادية؟

فطوبى لك!!

إن صورتك الأيقونة وأنت تكفكف دموعك السخية وتناجي ربك محتسبا وصابرا ومسلما بقدره، تتناقض على نحو فاضح مع تفاصيل يومياتنا الرتيبة والتافهة، تلك التفاصيل التي حرمت منها لأنك سلكت طوعا، وبثبات، دربا شاقا ووعرا، يتحاشاه كثيرون إذ لا قبل لهم به.

العزيز وائل..

إن إنسانيتك، ونبلك، وصدق أحاسيسك التي تتبدى على محياك، فضحت أنانيتنا ونرجسيتنا الرخيصة، أسقطت أوراق التوت عنا، وخزت ضمائرنا الظاهر منها والمستتر، أوجعتها وجعلتها تفيق من سبات عميق. لقد ذكرتنا في ما يشبه الدرس، أنه وفي حمأة الحديد والنار، وأنين الفقد والوجع، مبادئ وقيم وقضايا تستحق أن يضحي الإنسان من أجلها. فأرجو أن تعذر جبننا وحبنا المرضي للحياة.

العزيز وائل.. معلش!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.