شعار قسم مدونات

الغزو المضاد للمركز.. ضد الحداثة والعولمة

Foreigners Stranded By War Struggle To Evacuate Ukraine After Russian Armed Invasion
ارتبطت العولمة ذات المركزية الغربية بموجات هجرة متزايدة من الأطراف (غيتي)

في كتابه عن إسطنبول، تناول الروائي التركي الحائز على جائزة نوبل للآداب أورهان باموق ذكرياته في المدينة العريقة، وقد واكب في طفولته موجة هجرة أهل الأرياف إلى المدن، كجزء من مسار عملية التحديث التي تسارعت وتيرتها خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وباعتباره سليل أسرة أرستقراطية عتيدة، نقل مشاعر طبقته الاجتماعية في ذلك الوقت إزاء هذه الطبقة الجديدة، خصوصا من أسماهم "أثرياء الأرياف" أو "محدثي النعمة الورعين"، والذين -كما وصفهم- لا تختلف أخلاقهم وطباعهم عن أفكار خدم وطباخي وسائقي طبقة الأرستقراط في إسطنبول، وقد نقل تخوف هذه الأخيرة من تحالف الطبقات "الدُنيا" بكثرتها مع نخبهم الريفية في المدينة "للقضاء على الوجه البرجوازي الغربي في الحياة، وذلك تحت شعار الدين".

ارتبطت عملية التحديث وتغير نمط الإنتاج بهجرة سكان الريف إلى الحضر، وهو ما نشأ عنه تغير اجتماعي ملحوظ في المدن الكبرى، إذ مثّل هؤلاء القادمون من الريف رؤوس جسور للأطراف داخل المركز، نقلت ثقافتها ونمط حياتها لهذه المدن

وفي سياق آخر، تحدث فهمي هويدي في كتابه عن الثورة الإيرانية عن الدور الهام الذي لعبه سكان الضواحي في طهران والمدن الكبرى، والذين تشكل معظمهم من المهاجرين الوافدين من الأقاليم، كوقود للثورة، وكأعضاء في اللجان الثورية التي كان بيدها السلطة الفعلية في هذه المدن خلال فترة الانتقالية من الثورة إلى الدولة، كما نقل أنه خلال هذه الفترة انتشر عدم اهتمام الشباب بالتأنق في المظهر كدلالة على انتمائهم لصفوف الثوار، وقد ظل التواضع في مظهر السياسيين الإيرانيين، سواء من طبقة العلماء أو من خارجها، سمة شائعة بعد ذلك، عاينتها بشكل شخصي أثناء مشاركتي في إحدى المؤتمرات بكلية السياسة والقانون بجامعة طهران منذ عدة سنوات، ورأيت كيف غابت البروتوكولات التقليدية، وكيف كان تجهيز قاعة المؤتمرات بالجامعة متواضعا، حتى مع حضور بعض السياسيين البارزين والوزراء السابقين.

تكشف هذه الملاحظات العابرة عن ديناميكية هامة مرتبطة بعملية التحديث في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، إذ -كما هو معلوم- ارتبطت عملية التحديث وتغير نمط الإنتاج بهجرة سكان الريف إلى الحضر، وهو ما نشأ عنه تغير اجتماعي ملحوظ في المدن الكبرى، إذ مثّل هؤلاء القادمون من الريف رؤوس جسور للأطراف داخل المركز، نقلت ثقافتها ونمط حياتها -الأكثر محافظة بطبيعة الحال- لهذه المدن، ثم لاحقا، استطاعت هذه "الطليعة" أن تزاحم النخب المدينية في السلطة والثروة، وتدفع بثقافتها ومزاجها ونمط حياتها لتكون جزءا من التيار الأساسي للمجتمع، وليست مجرد ثقافة هامشية منزوية.

على سبيل المثال، يبدو أن التحالف الذي أثار مخاوف أرستقراط إسطنبول في خمسينيات القرن الماضي قد تحقق، وذلك حين تمكن رجب طيب أردوغان القادم من حي قاسم باشا الشعبي، والذي تمتد جذوره إلى مدينة رِيزَا الصغيرة، والمتخرج من مدارس الأئمة والخطباء، أن يكون عمدة إسطنبول في منتصف التسعينيات، وذلك قبل أن يصبح لاحقا رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية، وهذا الاختراق لم يمكن ممكنا إلا باتصال النخب الوافدة بمخزونها الانتخابي في ضواحي المدن، وفي الأقاليم، حينها تمكنت هذه الأطراف من انتزاع الاعتراف من المركز بأحقية تمثيلها بشكل عادل، ومكافىء لثقلها الديموغرافي، بل وفي بعض الأحيان، قامت القوى المعبرة عن الأطراف بفرض تقاليدها ونمط حياتها بقوة السلطة، مثل فرض حركة طالبان لبس البرقع -وليس مجرد الحجاب- على المرأة الأفغانية، باعتبار أن البرقع هو زي المرأة الأفغانية التقليدي، وهذا الأمر قد يصح ربما فيما يتعلق بالنساء في المناطق القبلية، لكنه بشكل عام فإن الأفغانيات، خصوصا في الحواضر الأفغانية، لم يعدن يلتزمن بلبس البرقع منذ عقود طويلة بتأثير من الحداثة.

يمكن أن نلحظ نسق "الغزو المضاد" هذا في علاقة المركز بالأطراف على المستوى ما فوق الدولة كذلك، إذ على المستوى الدولي، ارتبطت العولمة ذات المركزية الغربية بموجات هجرة متزايدة من الأطراف، وهي الهجرة التي خلقت مجتمعات وافدة جديدة، تتزايد فاعليتها السياسية في دول المركز بشكل مضطرد

ويجدر الإشارة هنا إلى أن هذا النسق من التفاعلات الاجتماعية يمكن أن نلحظه على مستويات أخرى، سواء على مستوى ما دون الدولة، مثل الأحزاب والحركات الاجتماعية، كظاهرة "ترييف الإخوان" في مصر التي تحدث عنها الباحث حسام تمام، والتي ارتبطت بتصعيد الكوادر القادمة من الأقاليم على حساب القيادات المدينية، بدافع من تزايد ثقلها التنظيمي، وعضويتها الكثيفة، وهي القيادات التي كانت تنظر إلى نظيراتها المدينية داخل الجماعة أنها أقل انضباطا و"أصالة" في تمسكها بالقيم المحافظة، ومن ثم، تمكنت بعد هيمنتها القيادية من زيادة الجرعة المحافظة و"التسلف" داخل الثقافة المؤسسية للإخوان، وفي نمط تدين أفرادها.

كما يمكن أن نلحظ نسق "الغزو المضاد" هذا في علاقة المركز بالأطراف على المستوى ما فوق الدولة كذلك، إذ على المستوى الدولي، ارتبطت العولمة ذات المركزية الغربية بموجات هجرة متزايدة من الأطراف، وهي الهجرة التي خلقت مجتمعات وافدة جديدة، تتزايد فاعليتها السياسية في دول المركز بشكل مضطرد، خصوصا مع الأجيال التالية لجيل المهاجرين، والتي زاوجت بين بعض الأفكار والرؤى المستقاة من مجتمعاتها الأصلية، مع قدراتها على الفعل والتأثير في المركز الذي نشأت فيه وألفته وأتقنت أدواته، وهي الفرضية التي فسر بها وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كسنجر – على سبيل المثال – تزايد الدعم للقضية الفلسطينية في الغرب، حيث علل ذلك بقوله "إن هذا ما يحدث حين تسمح بتدفق مهاجرين من ثقافة ودين وطريقة تفكير مختلفة بأكثر مما ينبغي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.