شعار قسم مدونات

كلمة في الأسر!

وحدات اسرائيلية تقتحم أقسام أسرى سجن عوفر في يناير الماضي.
وحدات اسرائيلية تقتحم عنابر الأسرى الفلسطينيين في سجن عوفر (الصحافة الإسرائيلية)

انقضت خمسة أشهر وثلاثة عشر يومًا مُذ كتبت آخر مقال للنشر، لم أنصرف فيها عن الكتابة كلية، بل كان المداد فيها منطلقا انطلاقة البرق في الآفاق: أكيد الظهور، واضح البريق، سريع الأفول لا تكاد تمتلئ منه الأبصار؛ فلم يثمر القلم ما يرجى نشره، وأجمعت الرأي حينها على صوم كصوم أمنا مريم عليها السلام، إذ أثقلت الهموم الوطأة على نفسها، وسُدت دونها المذاهب، فأوحى إليها ربها ما أوحى، فقال: "…فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" [مريم:٢٦] وكان الهم والتشتت، واخترت الصوم عن الكتابة للنشر، وظلت فكرة الكتابة تهتز في نفسي؛ شوقا إليها، ولله الحمد على ما كان، وعلى ما هو كائن، وعلى ما يكون.

تتابعت الشهور والحرب قائمة تنثر الهلاك وتحصد الأنفس، وتبسط كفيها الغنيتين بألوان الابتلاءات، مبرزة للعالمين معاني متلألئة من الفضيلة، وصورا من الصبر، وأشكالا من الرضى بالأذى والبلاء لا عهد لهم بها

ثم انفجرت الحرب في السابع من أكتوبر للعام ٢٠٢٣ للميلاد، وامتلأت الأبصار بمشاهد الأهوال: أشلاء متناثرة، وكروب مترادفة، وهدم مرعب، وصراخ كفرقعة الرعد من آلام الفقد؛ واشتعلت في النفس حمية مألوفة، وانتبهت في فضيلة الإنسان التي تمقت الظلم؛ فاشتد اهتزاز القلم كأنه يسمع منادي النفير، وارتعدت النفس وفار غضبها فورا كأنه البركان العظيم؛ فحملت القلم وذهبت في أثر القوم لا أهتدي سبيلا سوى ترجمة ما ارتضيت نقله من عبرية الإسرائيليين إلى عربيتنا الجليلة؛ عساها تبلغ فهوما تنتفع بها فتنهض وترتقي، بعد تنقيتها من الجهل الذي ولدته فوارق اللغات وبرازخ الثقافات، واشتغلت بإعداد بعض المواد الفكرية والثقافية، تمثلتُ فيها الحلقة الموصلة بين كبار المفكرين وسواد العرب والمسلمين، أنقل من هؤلاء إلى هؤلاء بقليل تصرف، وكثير شعورٍ بالمسؤولية، والتقصير.

وتتابعت الشهور والحرب قائمة تنثر الهلاك وتحصد الأنفس، وتبسط كفيها الغنيتين بألوان الابتلاءات، مبرزة للعالمين معاني متلألئة من الفضيلة، وصورا من الصبر، وأشكالا من الرضى بالأذى والبلاء لا عهد لهم بها، وقد رمى بالسهم الصائب من قال: "إننا لنراهم آيات من القرآن في أجسام البشر". وعرفنا من كلام العجم برهان هذا، فأسلم منهم خلق، وآخرون فزعوا إلى القرآن الكريم يبتغون اطلاعا على الذي يجعل هؤلاء الناس فوق الإنسانية كما يعرفونها: أرضية، وجبانة، ومنهزمة في حضرة المصائب.

وجاء الثاني والعشرون من ديسمبر من ذات العام المنطوي، وكان يوم ابتلائي أنا، إذ تقحمت قوة إسرائيلية خاصة حرم بيتي، حوت -فيما قدرت- ما يربو على عشرين مقاتلا ملثما، مسلحين برشاشات الـ (إم – ١٦)، وكان الأسر الذي ليس منه بد.

قادني القوم إلى السجن كأنما قبضوا على صاحب قوة نووية، يهدد بتحويلهم من كيان حاضر إلى خبر من أخبار التاريخ، تروى عنهم الروايات ولا تخفق لهم رايات. وحاولوا معي في جلسات التحقيق الطويلة شتى السُبل، فبدأوا بالتّرهيب، وبتصفيد يدي من خلفي لساعات امتدت من بعد منتصف الليل، واستمرت حتى السابعة صباحا، في غرفة صغيرة مظلمة وباردة، ولسان حاد شديد، ونبرة صاخبة مؤذية، ثم باللين في غرفة تُطل منها الشمس بشعاعها المنير، ودفئها المُفتقد، وخطاب يحسبه المستمع حوارا بين رفيقين متوادين. ثم إلى محاولة هزمي ثقافيا ومعرفيا، بادعائهم معرفة كل صغيرة وكبيرة، وغيب الله -كرما منه- عن وعي أولئك المحققين، أن كل ما يدخره المؤمن من إيمان في أوقات الرخاء، يجيء منافحا عنه ومؤيدا له في أحوال الشدة، ومواطن الكرب، وأن الإنسان يبتلى بما يستطيع، إذ "لا يُكلّف الله نفسًا إلّا وسعها"[البقرة : ٢٨٦]؛ فصرف الله عني شرورهم، وسخف في قلبي مكرهم فثبت في ميدان التحقيق والجدل صامدا، ومدني برحمة من لدنه، فقلت وقالوا، وظهرت كلمة الصدق على كلمة الكذب، بفضل الله.

إذا كان القبر حفرة في الأرض يسجى فيها الجسد بعد مفارقة النفس، فإن الزنزانة الانفرادية قبر للجسم والنفس معا، فليس يرى السجين فيها شيئا إلا نواحي هذا القبر وحدوده الإسمنتية الداكنة، وبابه المحصن.

امتد حبسي لدى الشاباك أياما ستة من عمر الأيام، هي من عمر النفس كسنوات مديدة. واختار لي القوم الحبس الانفرادي؛ فلم يكن لي في ساعات مكوثي في الزنزانة أنيس، سوى جمع من الحشرات السمراء. وكانت هذه الحشرات تنطلق من حفرة في الأرض جعلت -أعز الله القراء- للخلاء، ثم تتغاوى على قليل ما قدم إليّ من طعام سيئ في مذاقه ومنفر في هيئته، وعلى ثيابي التي ألبسها، وفراشي الذي أنام فيه وأتخذه مصلى؛ فزادتني -تلك الحشرات- في عزلتي وحشة فوق وحشتي، وصمتا على صمتي.

وكنت من سطوة القلق خسرت كيلوغرامات كثيرة، عرفت ذلك من ثياب السجن، وللثياب قصة وخبر: فيوم جاء بي السجان إلى المسؤول عن ثياب المسجونين، أعطاه الأخير ثيابا دون مقاسي، ولك أن تحكم في أمر رجل يلبس -قسرا- ثيابا صيفية في عز شتاء فلسطين البارد، ثم يجد أزرار بنطاله عصية على الإغلاق، ثم يقال له إذا شكا: "هذا الموجود". لك أن تحكم وتخمن بنفسك: بأي نفسية يقضي هذا الرجل ساعاته وأيامه؟ ثم لك أن تعلم أن هذا الرجل في يومين اثنين، ليس لهما ثالث، وجد أزرار بنطاله تنصاع لأصابعه وتغلق؛ من وزنه الذي خسره. لقد دأب القوم على حشد ما يمكن حشده من ظروف مذلة، تعينهم في بغيتهم كسر ثبات الإنسان، والذهاب بصبره.

وإذا كان القبر حفرة في الأرض يسجى فيها الجسد بعد مفارقة النفس، فإن الزنزانة الانفرادية قبر للجسم والنفس معا، فليس يرى السجين فيها شيئا إلا نواحي هذا القبر وحدوده الإسمنتية الداكنة، وبابه المحصن. ولا يسمع فيه سوى صخب أفكاره، واضطراب مشاعره، إلا ما يكون من سجين آخر قد نالت منه نفسه في زنزانة قريبة، فيسمع منه دعاء وأنين، ثم صراخ يشبه صراخ المجانين؛ إن الحبس الانفرادي عمل لا إنسانية فيه، بل هو تعسف وإذلال كله.

قضيت أيام الأسر وولت، وبدد ضياء الحرية ظلمات السجن، واتسع الصدر بعد ضيق، واطمأن الجنان بعد قلق، وجلا الابتلاء عن الإيمان الصدأ. ولتفاصيل تلك الأيام موضع ومقال، يفيض به القلم -بعون الله- متى استقرت نفس صاحبه، وشحذت لتدوين أحداثها همته، وهذه كلمة في الأسرِ، يرجى أن يكون لها امتداد في غد قريب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.