شعار قسم مدونات

الإصلاح الأسري في سورة الطلاق (3)

من اللطف اختيار الوقت الذي يصارح زوجته برغبته في فتح صفحة جديدة (مواقع التواصل الإجتماعي)

قال تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف..) (الطلاق: 2)

أناخت المقالة السابقة رحالها عن ما يجب فعله أثناء فترة العدة، وختمت بعبارة تبين كيف أن الله يحدث أمرا يعكس رحمته التي وسعت كل شيء، ومن عادة الخطاب القرآني أن يخبر الناس بما عليهم فعله قبل اكتمال شروط ذلك الفعل، فجاءت الآية مبدوءة بإحدى أدوات الشرط وهي (إذا)، ليتبعها فعل الشرط "بلغ"، وقد استخدم القرآن هذا اللفظ للإشارة من خلاله إلى قرب انتهاء تلك الليالي والأيام والساعات بعد طول الانتظار، وهو انتظار مضى في ذات المسكن الذي يقيم الزوج فيه.

جاءت الباء في القيد إلهاما في كلمة (بمعروف)، حيث كانت هذه اللفظة شرط لا يمكن تغييب ذكره؛ لأن الطبيعة الإنسانية معرضة لوساوس النفس الأمارة بالسوء، فقد تنمو لديها رغبة عارمة في الانتقام، فجاء التنبيه والطلب الإلهي الواضح: (بمعروف)

وبالعودة إلى المعاني التي يكشف عنها لفظ البلوغ، فإنها تصور لنا فترة العدة كما لو أنها رحلة في طريق لا حب فيها، يسير كل من الزوجين ليبلغا منتهاها معا، فيجد المتأمل في الآية أن أسلوب الخطاب فيها يعمد إلى أن يطرق باب قلب الزوج وعقله، منبها إياه إلى انتهاء فترة العدة، وأنه قد حان موعد اتخاذ القرار فيما يخص شريكة حياته ورفيقة دربه، وقد دق جرس الوصول إلى الأجل، والترك قد أصبح الآن قاب قوسين منك أو أدنى، ولم يعد هناك مفر من إجابة الزوج عن السؤال: ما أنت فاعل؟

بالعودة إلى الآية الكريمة، نجد بأن الأمر متعلق بفترة الحيض وليس الطهر منه؛ لأن الحيض يمكن معرفة بدايته ونهايته، أي يمكن بطبيعة الحال تقدير مدته، وهي لا تزيد عن عشرة أيام، وتنتهي هذه المدة فور انقطاع دم الحيض.

وضع الخطاب القرآني الرجل أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما الإمساك أو المفارقة، إذ يقول الله تعالى: (فأمسكوهن)، ونلحظ هنا دقة الوصف القرآني في هذه الكلمة تحديدا، وهنا يظهر التساؤل الآتي: لماذا لم يقل "أرجعوهن" أو "أعيدوهن" أو أي كلمة أخرى بدلا من (فأمسكوهن)؟

والإجابة على هذا السؤال تكمن في طبيعة المعنى المخبوء الذي توحيه كلمة "أمسك"، وهي تعني أن تتعلق بالشيء، وأن تطبق بأصابعك عليه كي لا يفلت من بين يديك أو يضيع، ونلحظ أيضا التركيب الصوتي للكلمة، والتي تحمل في ثنايا لفظها حرف الميم، والذي يخرج عند إحكام إطباق الشفتين على بعضهما، فيطابق اللفظ المعنى، فأنت تمسك بزوجك قبل انقضاء وقت العدة.

أما حرف السين الذي يخرج صفيرا أنيقا هادئا، يوحي وكأنه جرس التنبيه الذي يخبرك بأن عليك أن لا تضيع المزيد من الوقت بالتسويف، وأن تلقي عنك غطاء الخرافات النفسية التي أوصلتك إلى الطلاق، وأن تغسل وجهك بماء العشرة الزوجية في زمان قد مضى وقته وبقي فضله، وعليك أن لا تنسى الفضل بينكما.

وجاءت الباء في القيد إلهاما في كلمة (بمعروف)، حيث كانت هذه اللفظة شرط لا يمكن تغييب ذكره؛ لأن الطبيعة الإنسانية معرضة لوساوس النفس الأمارة بالسوء، فقد تنمو لديها رغبة عارمة في الانتقام، فجاء التنبيه والطلب الإلهي الواضح: (بمعروف)، وهو شرط أصبح التساهل به منتشرا مع الأسف في هذه الأيام، حيث يبدأ الزوج، بمجرد إرجاع زوجته إلى حظيرة الزوجية، رحلة الحساب عن وقت انتهاء العدة، فيرجعها عدة أيام، ثم يطلقها قصد الإضرار بها، فكان الحق تبارك اسمه قد نبه على ضرورة أن يكون الإرجاع مقرونا بحسن المعاملة، أي (بمعروف)، بمعنى أنه إذا رغبت أيها الزوج في إرجاعها، عليك أن تتمسك بأخلاق المسلم، بمعنى بأن تعتذر لها عما بدر منك، وأن تصغي لعتابها لك، وأن تتفهم وتدرك حجم الضرر النفسي الذي خلفته في داخلها، وأن تعينها على أن تتخطى تلك المرحلة الصعبة من حياتها.

من (فأمسكوهن) التي تعكس أهمية التمسك بالزوجة، إلى (بمعروف) وحرف الباء الذي يفيد الإلصاق، والذي يعكس ضرورة اقتران الإمساك أو التسريح بحسن المعاملة، نتطرق لمفهوم المعروف، والذي تتجلى فيه خمسة ألطاف تحيط بالإمساك بها:

إن القرآن كتاب الواقع الحقيقي، فهو ينهض بما تموج به النفس الإنسانية، لتكون قادرة على البناء الأفضل والأكمل والأصلح، ولأن الخلافات الأسرية يصل بعضها إلى ما لا رجعة عنه، جاء التعبير القرآني البديع بقوله تعالى: "وفارقوهن بمعروف"

أولا لطف الوقت الذي يختاره لكي يصارح زوجته برغبته في فتح صفحة جديدة، وإصلاح ما مضى في حدود القدرة، وثانيا لطف الألفاظ التي يختارها لكي يشعرها بأنها الأغلى، وبأنه يتحمل جزءا من الخطأ والمسؤولية، ويجدد دعوته لها ببناء بيت يصنع على عين الله، ثالثا لطف الهدية المادية، والتي تكون عربون صدق ووسيلة تهيئة للحديث، ورابعا لطف الوعد الصادق بالتغيير والاجتهاد به، وخامسا لطف التعلم الأكثر في بناء هذا البيت؛ ليكون محمولا على جناحي الوعي بالأسرة وتقوى الله.

إن القرآن كتاب الواقع الحقيقي، فهو ينهض بما تموج به النفس الإنسانية، لتكون قادرة على البناء الأفضل والأكمل والأصلح، ولأن الخلافات الأسرية يصل بعضها إلى ما لا رجعة عنه، جاء التعبير القرآني البديع بقوله تعالى: "وفارقوهن بمعروف"، وهنا يكون الفراق والترك والانفصال والبعد وإغلاق الباب، ولكن الباء التي تتلبس بالمعروف عند المفارقة تبقى مشيرة من بعيد وقريب إلى الرجل أن انتبه، وفارق بالمعروف.

إن المعروف في المفارقة عمل وليس محض شعار، فلكي تفارق بالمعروف عليك أن تتمثل سداسية الترك باللطف والإحسان، وهي ستة ألطاف تحيط بالترك: الأول اختيار الفراق في توقيته، فلا تطلبه في لحظة انقضاء العدة، بل أن تتحين الوقت المناسب، فلا تجعلها تترك البيت في الليل أو في البرد أو الحر الشديد، فهو لطف الزمان، والثاني لطف الألفاظ والأسلوب، بأن تطلب منها المغادرة بلطف، وأن لا تقسو عليها بأسلوب فظ كأن تطردها أو تقلل من شأنها، والثالث لطف الإنفاق، فلا تجعلها تتسول حقها منك، بل اجعله نصيبا يطيش في يدها، وأعطها مما أمدك الله به، واجعل هذا في سبيل وفاء لتلك الليالي، والرابع لطف الكتم للسر وعدم التشهير بها في كل مجلس ومكان، فاستر عليها ماضيها معك، واذكرها بخير أو اصمت عن ذلك، والخامس لطف الدعاء لها في غيبتها بأن يرزقها الله الخير والفضل، فما من رجل يفعل ذلك إلا وكان مححقا لشرطي الرجولة، وهما الإحسان عند الخصام، والدعاء في ظهر الغيب، اللطف السادس، فهو لطف التواصل مع الأبناء، فلا تحرمها أبناءها، واترك لها ولهم حرية التنقل بينك وبينها، فهذه السداسية من المعاني المستكنة هي التي تحقق المعروف في المفارقة، كتلك الخماسية المخبوءة التي تحقق المعروف في الإمساك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.