شعار قسم مدونات

الاستنصار شرقا.. الحرب في عيون الترك

مظاهرات في تركيا والأردن نصرة للقدس
مظاهرات في تركيا نصرة للقدس (الجزيرة)

تسنى لكل فلسطيني يرقب هذا العدوان الوحشي على أهلنا في غزة من خارجها، ومن خارج فلسطين التاريخية على وجه الخصوص، أن يأخذ فكرة عن مدى اهتمام المجتمع الذي يعيش فيه بالقضية الفلسطينية، وعما إذا كان لديه ما يكفي من الحوافز والمحركات سواء كانت إنسانية أو دينية أو سياسية للمطالبة بحقن الدماء، بل وللذهاب إلى مطالبات أبعد من ذلك في بعض الأماكن، تغطي جوانب واسعة من حقوقنا التاريخية الأصيلة.

في جامعتي الأتاتوركية للنخاع والصارمة جدا في مسألة الحضور، والتي تعارض إدارتها وشرائح واسعة من طلابها أردوغان وكل ما ينادي به علانية، فأرسل لنا عدد من المحاضرين أنهم لن يأخذوا حضورنا بالحسبان في التقييم النهائي وسيمددون لنا فرض التسليم

سالت الدماء أنهارا على مدار ثلاث أشهر من المجازر وهنا أستخدم كلمة أنهار عن قصد، لأننا بمرار شديد تابعنا إحداثيات وقوف الكل على الضفتين، مدى بعدهم عن عيون الأرض، أو بكلمات أقل مجازا، تابعنا كم الدماء الذي ينتظرنا الكل لننزفه ليقولوا شيئا، مثلا: ٣ أشهر وعشرات آلاف الشهداء وبيئة حضرية عائدة بأهلها للعصر الحجري، ليقول بلينكن هكذا بكل وقاحة أننا قتلنا زيادة عن اللزوم، هذا اللزوم هو ما عرفناه، كل من حيث يتابع، أو أين يركز.

عن نفسي وعن الأقدار التي جمعتني برفيق دربي في إسطنبول لنتخذ منها بيتا، أكثر ما طغى على مشاهداتي فيها خلال الحرب هو الصدمة، لدينا في تركيا شعب يحبنا حقا ويبكينا ويحزن لحزننا، وقد يسأل سائل ما الصادم في هذا؟ الترك شعب مسلم وشقيق ومجاور، لكنه أيضا أقرب للعلمانية في ميوله، ويتموضع على سلم الأولويات السياسية لدى الكثير والكثير منه مطلب ترحيل أشقاءنا السوريين للموت، لأحضان جزار دمشق الذي فروا منه.

لا تزال مشكلة العنصرية ضد السوريين خصوصا والعرب عموما على الأراضي التركية قائمة، وهي ليست طفيفة أو محصورة في أقلية صغيرة للحد الذي يمكن فيه التغاضي عنها، شاهدنا في الحالات الأكثر تطرفا التهجم على الأطفال بالسكاكين وضرب العجائز بالأحذية، سألنا في سيارات الأجرة عما إذا كنا سوريين وسمعنا التحريض عليهم بالجملة في الجامعات سيما في فترة الانتخابات، أؤكد على هذا لأوضح أنني لست في معرض تسخيفه أو القفز عنه أبدا، بل في معرض إيضاح أننا أمام فرصة لرأب الصدع.

كان تعاطي الترك مع الحرب مؤثرا وما زال، واتركوا لشخص مثلي أتى من أراضي ١٩٤٨ بقلب مهترئ من الحزن على الفقد وسط طوفان من المستوطنين الشامتين، هامشا ولو صغيرا للمبالغة، حفزه البائع الذي ناولنا أغراضنا البارحة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل دون أن يزيح عينيه لحظة عن شاشة التلفاز التي تبث عن غزة، ويمكنني أن أعد وزوجي عشرات المرات التي اطمأن فيها علينا سائقو سيارات الأجرة معبرين عن صادق حزنهم على مصاب بلادنا وغضبهم من التخاذل، بعضهم كان يرفض تسلم النقود لقاء الرحلة.

أما في جامعتي الأتاتوركية للنخاع والصارمة جدا في مسألة الحضور، والتي تعارض إدارتها وشرائح واسعة من طلابها أردوغان وكل ما ينادي به علانية، فأرسل لنا عدد من المحاضرين أنهم لن يأخذوا حضورنا بالحسبان في التقييم النهائي وسيمددون لنا فرض التسليم، كذلك الطلاب، هم هم أنفسهم الذين تشاجرنا معهم بشأن السوريين في فترة الانتخابات، اطمأنوا على كل فرد فينا واستفسروا عن آليات إيصال المساعدة والتبرعات لغزة.

أكثر ما كان يغضبني من نفسي هو عجزي عن إيصال الإجابات الدقيقة لضعف لغتي التركية، التي أهملت تطويرها لقناعتي سابقا أن إتقانها هو شيء بلا فائدة هي وكل اللغات التي تصبح بلا استخدام فور صعود الطائرة.

رأينا رايات الاحتلال على الأرصفة، وصورا للمقاومين على المداخل، ملصقات وشعارات منددة على الجدران، أما في رأس السنة، فكان الجسر المؤدي لأكثر أحياء اسطنبول صخبا في الليل مغلقا أمام السيارات لنرى في اليوم التالي واحدة من أضخم المظاهرات التي خرجت لنصرة غزة، الرايات الفلسطينية معلقة على المحلات في بلد يقدس خصوصية رايته الوطنية، هذا شيء مما شاهدته وكان بمثابة الطبطبة، لكنه ألح علي بالسؤال أيضا، لماذا لا ننجح في ترجمة هذا لفعل سياسي أكثر نجاعة من الخطب الجوفاء التي اعتدنا عليها في تركيا، لدينا رصيد كاف!

عمدت في كثير من هذه المواقف الودودة مع الأتراك أن أنقل الحديث إلى مستوى آخر لاستيضاح متوسط المعلومات التي لديهم عن فلسطين ومتطلبات الموقف الحرج فيها، ويمكنني القول إنه أفضل من متوسطه في ميلانو مثلا (مكان إقامتي السابق)، لكن أكثر ما كان يغضبني من نفسي هو عجزي عن إيصال الإجابات الدقيقة لضعف لغتي التركية، التي أهملت تطويرها لقناعتي سابقا أن إتقانها هو شيء بلا فائدة هي وكل اللغات التي تصبح بلا استخدام فور صعود الطائرة.

لن أجلد نفسي على تسليمي السابق لفكرة أن الإنجليزية هي لغة العصر ولغة البشر الوحيدين الذين هناك من مخاطبتهم وتعلم معارفهم طائل، لكنه الوقت للتوقف عن ذلك لصالح الوعي بأهمية أن نتعلم اللغات المشرقية عموما ولغات المسلمين غير العرب على وجه الخصوص، ليس عزوفا عن مخاطبة الغربيين ولا يأسا من الجموع التي خرجت بالملايين تندد بالحرب في مختلف عواصم أوروبا، بل تراجعا عن الاستكفاء بمخاطبتهم وحدهم ولو بالاستغناء عن مفاتيح السردية عند ثبوت أنها لا تخدم الهدف بينما ندير ظهرنا للملايين التي نقف وإياها على نفس الأرضية.

ذاك خبر وهذا مبتدؤه المنطقي، تماما بمنطقية أن ينشغل حائز الكرة بتمريرها لزميله الأقرب من مرمى الخصم، ثم بتحييد ما يطاله من لاعبيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.