شعار قسم مدونات

قراءة في الرؤية الغربية وريادة الحضارة الإسلامية

أوروبا كانت قبل نهضتها لا تعدو كونها مجتمعات متحاربة يسيطر عليها المخيال الوثني الخرافي (مواقع التواصل الاجتماعي)

حين تنادي أميركا والغرب بقيم الحرية وشعارات الديمقراطية وحمل لواء العلم، فذلك لا يعني أنهم يريدون جعل شعوب العالم أفضل، بل على العكس من ذلك إن الهدف الأساسي هو محاولة السيطرة وبسط النفوذ لا لشيء إلا للربح، كما أوضح تشومسكي في كتابه "الربح مقدما على الشعب"!

ولم تنبع هذه الأساليب الوحشية والتعطش لسفك الدماء، وبكل تلك القسوة الهائجة، من مجرد شخوص أو مؤسسات شريرة منفذة، ولكنها رؤية متأصلة لا في السياسة وحسب، وإنما في الفكر الذي صاغ بنية الغرب الاجتماعية والعلمية. وهذه الرؤية الغربية هي نتاج اندماج معقد متنوع لعبت القراءة الدينية فيها دورا كبيرا ورسختها حتى بات تهميش الآخر وتشويه هويته الثقافية والاجتماعية وادعاء مركزية العلم والحضارة من أسس تلك الرؤية التي عرفت بالمركزية الغربية.

هذه المركزية تدعي أن الأوروبي هو الكوني مقابل الآخر غير الأوروبي هو الجزئي، وأن الرجل الأبيض هو رجل العالم المتطور الذي يجب عليه أن يرشد شعوب العالم بمختلف أجناسها وأعراقها وأديانها إلى طريق الديمقراطية وحق تقرير الشعوب لمصيرها، كما بيّن ويسلون في مبادئه المعروفة.

بتطور التكنولوجيا والعلوم التجريبية أخذت هذه المركزية طريقها في الترسخ أكثر خصوصا لدى الكثير من المستشرقين والمفكرين الغربيين البارزين. وقد وصل حد الترسخ إلى القول بأن "الأوروبيين هم شعوب الأرض الأكثر تهذبا، والأكثر تمدنا، والأحسن صنعا".

وقد أكد الفيلسوف ماكس فيبر على كل هذا، بل أعلن عن وجهة نظر فلسفية ذات طابع اجتماعي مغزاها أن هناك عقلانية خاصة في الحضارة الغربية تميزها عن غيرها، وتوصل في دراسة مستفيضة عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية إلى أن الرأسمالية "هي من نتاج الروح الدينية البروتستانتية بأخلاقها وقيمها ومعتقداتها، وخصوصا لدى أتباع الكالفينية، إذ إن هذه الطائفة البروتستانتية تعمل على تشجيع الادخار والاستثمار".

ولو أخذنا مثالا واضحا ومعروفا حول أثر هذه المركزية في الفكر الأوروبي بفلسفته ونظرياته لقلنا إن الفيلسوف الإنجليزي بيرتراند راسل هو المفكر المناسب فعلا. وراسل معروف بأعماله الرياضية المعقدة وأثر أعماله في الفسلفة التحليلية التي كان على رأسها هو والفيلسوف لودفيغ فتغنشتاين.

راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" وكتابه "حكمة الغرب" قام بتهميش أي دور للعرب أو الإسلام في إثراء الفلسفة، بل نجد أنه تعمد القفز في تأريخه للفلسفة من اليونان إلى عصر الأنوار، وبالتالي فإنه لم يشر لا من قريب ولا بعيد لوجود أثر للحضارة الإسلامية في الفكر الغربي تماما. فهو لم يعتبر تلك الحضارة مخزنا للثقافة الهلنستية كما تبنى ذلك مؤرخ العلوم بيير دوهيم، ولم يعتبرها أصلا حضارة ترجمة كما فعل الرياضياتي روني تاتون، ولكن همشها تماما وبطريقة واضحة تنبئ بوجود خلل معرفي أصيل في منظومة الفكر تلك، وقد استشرى هذا الخلل ليكون في أحيان كثيرة منهجا يحتذى به.

ريادة الحضارة العربية وأثرها

ما بينه راسل وغيره يمثل وجهة نظر متحيزة دون أن يكون لها دليل فعلي يؤكدها، بل على العكس إن فحص الأدلة والآثار المعرفية يبين لنا أن ذلك التأثير الإسلامي الذي لم يشمل العلوم التجريبية والمجالات الفلسفية فقط، بل وصل إلى الأدب والموسيقى، ولعل ذاك المؤلف المعنون "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" لمؤلفه الدكتور فضل صلاح فيه دلالة عملية ومغزى بسيط يؤكد تأثر الأدب الأوروبي بما وصل إليهم من آداب وأشعار الأندلس. وإذا كان هذا الأثر جليا في الأدب فما بالك بالفكر والاجتماع والدين!

وقد نافح عن هذا الأثر بشدة المفكر المصري رشدي راشد، وترجم ترجمته الشهيرة "موسوعة تاريخ العلوم العربية" مقدما بين أيدينا شرحا معاصرا للكثير من المسائل الرياضية والفلكية والكيميائية التي عالجها العرب في زمانهم. كما أن هناك الكثير من الكتب التي تشرح وتوضح ريادة الحضارة الإسلامية ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب العقاد "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" وكتاب "بحث في تاريخ العلوم عند العرب" لمؤلفته يمنى طريف الخولي وغيرها الكثير.

العصور المظلمة في أوروبا

يمكن لنا أن نصف بإيجاز أن أوروبا كانت قبل نهضتها لا تعدو كونها مجتمعات متحاربة يسيطر عليها المخيال الوثني-الخرافي من كل جانب وتغزوها آثار الشامانية والغنوصية بما فيها من سحر وشعوذة، ولعل ما قاله أحد القساوسة جدير بنقل تلك الحالة الدينية البائسة التي كان يعانيها رجال الدين أنفسهم، فقد قال "أما الأب والابن فأعرفهما جيدا لأنني أرعى خرافهما، أما الرفيق الثالث فلا أعرفه، فلا يوجد أحد بهذا الاسم في قريتنا".

أما الحالة السياسية فقد كانت مرتبكة ومضطربة أيما اضطراب، فقد شاعت الأمراض الفتاكة وطغيان الملوك وجشعهم، وأخذت الكنيسة مكانا لا يعلى عليه حتى كان لها يد في السلطة القضائية! ولها دور في توجيه الكثير من الأوامر السياسية حتى كان الأساقفة ومن معهم مستشارين للنبلاء والأمراء.

ولو توجهنا من مضمار الحالة السياسية والدينية والفكرية إلى مضمار الفن والعمارة التي نراها اليوم في فلورنسا ومباني باريس التاريخية وميلانو، لوجدنا أنها لم تتطور إلا بعد سقوط الأندلس المدوي والتخلص من الوصاية الكنسية التي سيطرت كما أسلفنا على زمام الأمور السياسية والاجتماعية في كثير من الأحيان، بل وصلت سيطرتهم إلى كيفية قراءة التراث العالمي، الفلسفي منه والفكري الذي كان حكرا على رجال الدين وحاشيتهم، بل الأدهى من ذلك أن قراءة الكتب المقدسة وتفسيرها لم تكن متاحة للعامة من الناس إلا بسياقات توافق عليها الكنيسة الكاثوليكية، والويل لمن يخالف تلك السياقات عمدا أو من غير عمد، إذ سينال جزاءه المستحق، وبالفعل وصل الأمر لإعدام رجل دين خالف بترجمته تعليمات الكنيسة وأعدم آخر فقط لأنه أضاف عبارة ما لترجمته!

ولعمري إن هذه مجرد أمثلة منتقاة وبسيطة تبين أن الحضارة الأوروبية لم تنهض لأنها أصيلة أو أن شعوبها عقلانية كما توصل فيبر، بل نهضت لأن هناك عوامل حضارية وعالمية قد حصلت واستثمرت بنجاح فكان ما كان..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.