شعار قسم مدونات

قصة بناة تاج محل الحقيقيين (1)

Nagwan Lithy - قصر تاج محل (بيكسابي)  - بين اليوم والأمس.. تكلفة إعادة بناء أشهر المعالم السياحية
معظم الدراسات الميدانية للنقوش على تاج محل تفيد بأنه يوجد اسمان فقط على ضريح التاج (الجزيرة)

منذ مدة نشرت مقالا بعنوان "حقيقة قصة إنشاء تاج محل أسود" في مدونات الجزيرة، وختمت بمقولة "إن العديد من القصص رويت ودونت عن تاج محل، وكيفية تشييده، وعن صناعه ومهندسيه". واليوم، في أثناء الحوار العلمي على مجموعة واتساب الخاصة بتاريخ شبه القارة الهندية، اقتبس بعض الإخوة معلومات غير دقيقة عن الأموال التي صرفت على بناء تاج محل، والمدة التي استغرقت لإنجازه، فخطر في بالي أن أكتب مقالا قصيرا لتوضيح هذه الأخبار وتلك الروايات، وفي الوقت نفسه أستوثق بعض المعلومات عن أولئك الناس الذين شاركوا في تشييد تاج، وتعميره.

وقد درس هذه الموضوعات العديد من المؤرخين الهنود، ومنهم -على سبيل المثال- الشيخ سليمان الندوي، تحت عنوان "أسرة المهندسين الذين بنوا تاج محل والقلعة الحمراء" في مقال له نشر باللغة الأردية والإنجليزية، والمؤرخ الهندي الكبير جدو ناته سركار، تحت عنوان "بناة تاج محل" في كتابه "دراسات تاريخية عن المغول" باللغة الإنجليزية، والمؤرخ الأثري رام ناته في كتابه الخاص عن تاج محل باللغة الإنجليزية، والباحثة النمساوية المتخصصة في العمارة المغولية والفنون "إيبا كوش" في كتابها "تاج محل والحدائق الواقعة في ضفتي نهري جمنا في أكرا" باللغة الإنجليزية، والباحث الأثري والأكاديمي "علي نديم رضوي" في دراساته الميدانية في مجمع التاج، وغيرهم. وقد طالعت أعمالهم الخاصة بتاريخ تاج محل وأفدت منها في أثناء إعداد هذا المقال.

ولعل من المناسب أن أكتب -أولا- نبذة قصيرة عن قصة بناء تاج محل. حينما بلغ شاهجهان (المتوفى 1076هـ/1666م) (الملقب بـ"الأمير خرم على عهد والده) الـ15 من عمره في عام 1016هـ/1607م، خطب والده السلطان جهانكير (المتوفى 1036هـ/1627م) له الأميرة أرجمند بانو بيكم الملقبة بممتاز محل، وهي بنت للوزير آصف خان، شقيق نور جهان زوج السلطان جهانكير. وبعد 5 سنوات من تلك الخطبة، أقيم حفل الزواج عام 1021هـ/1612م. وقضى الزوجان 19 عاما معا في حياة زوجية سعيدة، ورزقت بيكم منه بـ14 طفلا، حتى وافتها المنية وهي تضع مولودها الأخير، إثر ولادة متعسرة، في مدينة برهان بور في جنوب الهند؛ وذلك في 17 ذي القعدة عام 1040هـ/الموافق للسابع من يونيو/حزيران عام 1631م.

وبعد وفاتها، دفن جثمانها في مقبرة صغيرة مؤقتة بنيت في داخل حديقة زين آباد، على ضفة نهر تابتي في برهانبور، وبعد 6 أشهر أمر السلطان شاهجهان ولديه الأمير أورنك زيب (المتوفى 1118هـ/1707م)، والأمير شاه شجاع (المتوفى 1071هـ/1661م)، بإحضار تابوت بيكم إلى مدينة أكرا، ولدى وصول تابوتها دفن في أرض اشتراها السلطان من الراجا جي سنكه، حفيد مان سنكه الأكبري، وأعطاه أرضا خصبة مقابلا لها. واقترح المهندسون المعماريون تصميمات عديدة لبناء المقبرة على قبرها، ووقع اختيار السلطان على أحدها، فوضع له نموذج خشبي في بداية الأمر. وبعد ذلك، أمر السلطان ببناء ذلك الضريح تخليدا لذكراها، والذي أقيم على الضفة الجنوبية من نهر جمنا. وقد أشرف السلطان شاه جهان بنفسه على بناء الضريح، واختار نخبة من المهندسين الخبراء من داخل الهند وخارجها، والذين بدؤوا العمل في البناء والتشييد، واشترك في أعمال البناء والإنشاء أساطين البناء اللامعين، والخطاطون المهرة، وغيرهم من المسلمين والهندوس.

والسؤال المطروح: مَن بُناة تاج محل ومعماريوه؟ هل تتوفر معلومات مفصلة عنهم في كتب الحوليات، أو نقشت أسماؤهم على تاج محل، أو على تلك المباني التي شيدت في مجمع التاج؟ لا جرم أن المغول في الهند حازوا قصب السبق، في تطوير المنظومة الثقافية والمعمارية والفنية وترقيتها. وإن المعرفة بمختلف المجالات في العلوم والفنون والبراعة فيها كانت موضع اهتمام وتقدير كبير لدى معظم السلاطين المغول، لا سيما الأباطرة منهم، خصوصا السلطان أكبر، وجهانكير، وشاهجهان، وأورنك زيب. وتمدنا الحوليات الرسمية، والمذكرات الشخصية المهمة من مثل: آيين أكبري، وأكبر نامه، وطبقات أكبري، ومآثر رحيمي، وتوزك جهانكيري، وبادشاه نامه وعمل صالح وغيرها، بتراجم للعلماء والأدباء والشعراء والخطاطين والأطباء، والمهندسين وغيرهم.

وكذلك، جاء الوصف فيها عن المباني المغولية ببعض التفاصيل، مع معلومات ليس عن المواد المستعملة في البناء، وكيفية استعمالها، وقيمتها في السوق فحسب، بل أيضا عن الفئات المختلفة من المهنيين والحرفيين الرئيسين الذين شاركوا في أعمال البناء والتشييد، مع ذكر أجورهم، وتلك العطايا والهدايا التي مُنحوها، وتلك الألقاب العالية مثل "مهندسان فردوس برين"؛ أي مصمموا الروضات الجنان على الأرض، و"معماران جادو أسرار"؛ أي محبوب الجماهير، وغيرها من الألقاب التي منحوهم إياها السلاطين المغول، إلا أنه من المثير للاهتمام أنه مع تكرار ذكر الأطباء أو الجراحين أو الشعراء والأدباء وتراجمهم في تلك الحوليات وكتب الطبقات، نادرا ما نجد فيها ذكرا للمهندسين المعماريين بأسمائهم وسيرهم. والحق أنه تتوفر معلومات مقتضبة وشحيحة جدا عنهم؛ ومن ثم يكتنف هوية أولئك البنائين والمصممين والمهندسين المعماريين شيء من الغموض.

واللافت للنظر، أن هذه المنشآت المغولية نادرا ما احتوت لوحاتها ونقوشها الكتابية أسماء البنائين، ونحاتي الأحجار، وصانعي الطوب، وغيرهم من الطبقة الثانية أو الثالثة. فنحن نعلم جيدا أن ميرك غياث، المهندس المعماري التيموري في آسيا الوسطى، هو من أشرف على بناء مقبرة همايون على عهد السلطان أكبر (المتوفى 1014هـ/1605م)، ولكننا لا نجد أي أثر لتلك الشخصيات الأخرى التي شاركت في بنائه، وكذلك الحال مع جميع المنشآت المغولية الدينية والاجتماعية في عهود جميع السلاطين المغول.

وفي عهد السلطان شاهجهان، أنشئت مدينة كاملة في داخل القلعة الحمراء في دلهي، إلا أن الحوليات الشاهجهانية تمدنا بمعلومات مقتضبة جدا عن معماريها ومهندسيها؛ فمثلا: جاء في حوليتي "بادشاه نامه" و"عمل صالح المعروف به شاهجهان نامه" لكل من عبد الحميد اللاهوري، ومحمد صالح كنبوه، أن كلا من المهندس والأستاذ أحمد وحامد، هما من خطا مخططات البناء لتلك القلعة، التي بنيت تحت أعمالهما الهندسية وإشرافهما المباشر. إلا أن تلك المصادر والحوليات نفسها صامتة فيما يتعلق بالمعماريين المهندسيين من الدرجة الثانية أو الثالثة لضريح تاج محل. فقد ذكرت باقتضاب شديد أن مجمع تاج محل أنجز تشييده بإشراف "به سركاري" كل من الأمير مكرمت خان، وعبد الكريم خان، وهما من النبلاء الشاهجهاني. وإن المعلومات الوحيدة الواردة في المصادر الفارسية المعاصرة من بادشاه نامه، تقول "جمع أفراد مهرة من شتى أنحاء أراضي الإمبراطورية، للعمل على هذا البناء؛ ومنهم الحجارون والنحاتون والمتخصصون في حفر الأحجار، ونقشها، وأشغال اللاكيه، وتطعيم الأحجار والأخشاب وزخرفتها. فقد باشر الجميع أعمالهم وفقا لتخصصهم الدقيق".

وتفيد معظم الدراسات الميدانية للنقوش على التاج، بأنه يوجد اسمان فقط على ضريح التاج، أحدهما عبد الحق الشيرازي، الذي ترك توقيعاته في العديد من الأماكن في مجمع التاج بصيغ مختلفة، ففي بعض المواضع نجد توقيعه بـ"عبد الحق"، وفي أخرى "أمانت خان الشيرازي"، وفي مواضع ثالثة "عبد الحق أمانت خان الشيرازي". والاسم الآخر الوحيد الذي نقش على مبنى التاج نفسه هو "الأستاذ لطف الله المهندس" أحد المهندسين المعماريين الذي كان ينتمي إلى أسرة أحمد، الملقب بـ"المعمار الشاهجهاني". وكان لأحمد هذا 3 أولاد؛ أكبرهم عطاء الله رشيدي الملقب بـ"نادر العصر"، والأوسط لطف الله المهندس، وأصغرهم نور الله معمار. وأسهمت هذه العائلة في بناء معظم المنشآت الدينية والمدنية على عهد كل من السلطان شاهجهان، وأورنك زيب. وقد كتب المهندس عطاء الله رشيدي كتبا عديدة في علم الهندسة والرياضيات.

وهكذا، فنحن أمام إشكالية فيما يخص أسماء المهندسين المعماريين والبنائين من الدرجة الثانية أو الثالثة، الذين شاركوا مشاركة حقيقية في تشييد تاج محل، ومبان أخرى واقعة داخل مجمع التاج. إلا أنه يمكن لنا استخلاص بعض المعلومات عنهم من تلك النقوش والرموز المنقوشة على الأسوار المحيطة بالتاج، حيث تتوفر توقيعات لكبار الحرفيين، ورموز النقابات أو المجموعات التي كانوا ينتمون إليها. والسؤال هنا: ما تلك الرموز، وما دلالاتها ومعانيها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.