شعار قسم مدونات

الاستشراف والتنبؤ والذكاء الاصطناعي

التنبؤ في حد ذاته مسألة محفوفة بالريبة والشكوك (شترستوك)

تعد الدراسات الاستشرافية حقلا فريدا من نوعه، وتعتبر من أهم التطورات الأخيرة في مجالات العلوم الإنسانية، وتهدف إلى إمعان النظر والتطلع للمستقبل واستقراء التوجهات العامة في حياة البشرية، من أجل محاولة استنهاض الواقع وتقديم بدائل تساعد في البناء الفكري والمادي والروحي للإنسان والأمم.

فالقلق والخوف مما يخبئه المستقبل وحب المعرفة والاستكشاف كانا ولا يزالان هما الباعثين على التنبؤ بالمستقبل، فالدراسات الاستشرافية والتنبؤ يعتبران دراسات تستهدف المستقبل، وهي التي تقوم على أساس السعي لتحديد احتمالات معينة، وتوضيح المناهج التي يمكن الاستفادة منها ووضع مناهج جديدة من أجل النظر البعيد المدى.

والتنبؤ من العمليات الحيوية تبدأ بالحاضر لتنطلق إلى المستقبل، فهي تبدأ في مدارات أو حالة الانتظام والتسلسل والترتيب المنطقي للأفكار والأشياء والأحداث في مجال العقل والوعي البشري نحو مدارات التأمل والتصور. وإننا بعملية التنبؤ نحاول إعداد وتجهيز وتكوين تصور تقريبي يقوم على الإنجازات والأبحاث العلمية ويتغذى بأفكار العلماء المتجددة. فالتنبؤ العلمي بما قد يصير عليه الإنسان مستقبلا هو حصيلة ما توصل إليه العلماء حتى وقتنا الراهن وعليه نستطيع أن نبني توقعاتنا.

فالتنبؤ في حد ذاته مسألة محفوفة بالريبة والشكوك. وقد يحسبها البعض رجما بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، لكن التنبؤ العلمي يختلف اختلافا جذريا عن التنبؤات التي يدعيها المشعوذون والدجالون والمنجمون، ومن في حكمهم، إذ لا يوجد لتنبؤاتهم سند أو أساس. فالتنبؤ العلمي بمستقبل الإنسان لا ينبني عن أوهام ولا هو نابع من فراغ، بل هو نابع من نواميس الكون وسننه وأحكامه، ويتماشى معها، وهو بذلك مشروط بأمور تجعله تنبؤا خاصا وهادفا.

والنظرة المستقبلية التنبؤية لابد أن تكون علمية مخطط لها لكي تنجح، ولهذا نجد الفكر العالمي يتحدث عن المستقبل، وعن الغد، وعن الطموحات، وعن التصورات، وعن كل جوانب المستقبل، يرسم ويخطط ويفكر ويتأمل ويعمل من أجل المستقبل. فالدراسات المستقبلية لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل، بل إلى التبصير بجملة البدائل المتوقعة التي تساعد على الاختيار الواعي لمستقبل أفضل.

والاختلاف بين الاستشراف والتنبؤ قد يطرح في درجة التحديد، ذلك بأنهما يتفقان في دراسة حدوث بدائل معينة للحاضر الذي نعيشه، ولكنهما يختلفان في درجة تحديد حدوث أي من تلك البدائل، فالدراسات الاستشرافية لا تنتهي بتقرير حدوث أحد البدائل الواردة فيها، بل تدرس بدائل متعددة "احتمالية"، فهي دراسة تنبؤية مشروطة للاحتمال الممكن حدوثه محاولة التأثير على شكل المستقبل القادم، مع الأخذ بعين الاعتبار الأحداث والتطورات التي قد تفاجئ الباحث في هذا الباب، إلى جانب بعد الأفق والنظر الذي تطلع إليه.

فالمستقبل يحمل في طياته مفاجآت كبيرة قد لا تستوعبها عقولنا، فكما أن أناس الأمس لم يستوعبوا ما نحن عليه اليوم، كذلك نحن اليوم قد لا نستوعب ما سيحمله المستقبل من تغيير سيطرأ على حياة الناس بعد مئة أو مئتين أو ألف عام. وهذا ما يحمل خبراء المستقبل على الحديث عن مستقبلات بدلا من مستقبل واحد. والتنبؤ عملية تبدأ بالحاضر لتعود للماضي محاولة استرجاعه وتنطلق للمستقبل بالتخطيط والنظر محاولةً إدراكه، وبذلك فإننا نحاول تجميع وتكوين تصور تقريبي ورسم ملامح بقدر الإمكان، ولهذا نجد الخيال والتصور والفكر يتدخل وبحدة.

فصناعة المستقبل فن والاستشراف علم يمتزج فيه الأمل والعلم بالعمل والتصور بالواقع والخيال بالحقيقة من أجل البشرية جمعاء، فكل تقدم واختراع هو ارتقاء بالبشرية في سلم ومسار المستقبل. ويسعى العالم اليوم إلى أن يثبت مدى قدرة وفاعلية نماذج الشبكات العصبية الاصطناعية "الذكاء الاصطناعي" في تطوير عملية التنبؤ، إذ تتم محاكاة ونقل أساليب الذكاء البشري في شكل برامج وتطبيقات ونظم تجعل الحاسوب قادرا على عدة مجالات عند محاولة الحصول على حلول لها. وتتضارب الآراء حول قدرة "الذكاء الاصطناعي" مقابل الوعي الإنساني الذي يجمع بين الإدراك والوجدان، وبين العقل وإنسانية الإنسان.

فقد كان "الذكاء الاصطناعي" حاضرا في الخيال العلمي والتنبؤ البشري قبل أن يكون جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليوم. فلقد حاول العلماء تطوير برامج قادرة على أداء المهام العامة المرتبطة بالكائنات الذكية التي تطلب منها والتي تتطلب ذكاء بشريا، وعلى الرغم من ذلك، فإن العالم المتسارع يستمر في تطوير هذا المجال، بيد أنه يتعذر وجود برامج تجمع بين المرونة البشرية في إنسانيتها والبيانات المعرفية.

وباعتبار هذه الشبكات العصبية الاصطناعية من صنع وإنتاج الذكاء البشري، فهل ستتعدى قدرات صانعها؟ وهل تستطيع تحقيق عملية التفكير المميزة للعقل البشري والانطباع الإنساني؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.