شعار قسم مدونات

منازل المحبين.. هجرة بين نقيضين

السعادة لحظة إخلاص للنفس البشرية وبامتلاكها قوة الإثارة تمنح القلب شغفا أبديا خالصا للحبيب (مواقع التواصل الاجتماعي)

ما من شك أن التضحية التي يطلبها كثيرون ممن تحابوا لن تنال إلا بالرضا، والقبول، والصفح، وقبل كل ذلك كان على المتحابين أن ينهلوا من منازل العطاء والجود ما يفوقون به سائر الخلق ممن أودعهم الغني عجائب قدرته، وسر حكمته، ومن نظر إلى أحوال الذين جمعتهم المقادير على صفيح متقلب بين الرد والطلب، والسعي والهجران، والابتسامة والبكاء، والفرح والحزن، كان عليه أن ينهل من قصصهم عبرا وحكما عظيمة دوّنتها صحف الأولين، وكتبتها أقلام البررة المتعقّبين، التي تكون بقدر التأمل في حقيقة العاشقين المربكة لكل عاقل، والكريم من أبصر إلى سيرهم بالشوق والمحبة، بدل الامتهان لمشاعرهم بالشفقة والاحتقار، وقد حكى الحفّاظ ممن أودعهم السميع فتوحات علمه، وبدائع حكمته، مكاشفة حال العاشقين المبتلين بالمخلوق، كي يرفعوا أكف الضراعة والرجاء نحوه، طالبين وراغبين في حلمه الذي أزاح عقابه.

الاغتراب هجرة بين النقيضين

حين تأملت فعل الموت الاختياري من مقاربة أنه تجاوز للبعد الاجتماعي والأخلاقي، كي يغدو رمزا تعبيريا بالغ الأهمية للاغتراب الذي استحوذ على النفس البشرية، في زمن تتآكل فيه الروح داخل براثن المادية الموحشة، لم يكن في حسبان كثيرين قيمة "اختيار الموت" من زاوية اختلقتها الأعراف والأديان في سياق تاريخي استثنائي، يراد له أن يكون أبديا وفق منظور قاصر يخضع بالمطلق لتفسير معين، وللظروف التي جعلت من الموت فكرة سلبية لم تتجاوز شغف التمسك بالحياة ولذتها، فأنْ يموت الجسد ويبلى بشتى أنواع السموم المصطنعة بشريا، هو فقْد جسيم وخسارة كبرى في نظر المادية التي تراهن على استمرارية النشاط الاستهلاكي للحضارة، فقيمة السلع أولى من الإنسان الذي يسعى نحو هلاكه باقتناء المزيد من الضرر تحت شعارات مزيفة، سرعان ما تتلاشى أمام أول رهان تفرضه قدرة الخالق على الحضارة التي تستمر في استعباد البشر.

في الوقت ذاته ومع الموت الذي يفرض قوانينه دون مساءلة على البشر، تنصب المحاكم ومعها جحافل حرّاس النيات على من تجرعوا العزلة والوحدة والإقصاء وقوانين ظالمة، من صنيع طغم تسلب الجميع حق الاختيار والهجرة، بل إن كل لحظة يمكنها أن ترسم ابتسامة في وجوه أسرى المظالم والقهر، تتكالب عليها يد الفرعون كي تسرقها منهم، وهم ينشدون الخلاص نحو محياهم.

حين يتكلم الأموات بأعلى صوتهم صارخين في وجه المستقبل الذي انقطع أمله معهم، كان وقتهم قد نفد لدى كثيرين ممن حولهم، فالصمت آية أولئك الذين يتألمون، وابتساماتهم وإن بلغت نواجدهم، فهي الأخرى ترسم حدود عزلة جاثية على قلوبهم، ومهما بدا عيشهم في المجتمع متبادلا بالنفع، ومعاشهم ومتقلبهم في الصباح والمساء، فإن الذي اعتزل الناس لم يكن بحاجة لأن يخلو بجسده عن سائر الخلق كي يرتشف اللحظة الخالصة التي وهبته انعتاقا عن لذة الدنيا وأحوالها المربكة، ولعل العبرة التي تؤخذ من أولئك الذين يركبون قوارب النجاة نحو عالم أكثر إيمانا بصفائهم وحبهم، انقيادهم الطوعي لمن يحبون، كي يكون الهواء الذي يتنفسونه، والأماكن التي يتشاركونها، والأحلام التي يأملون تحقيقها، قربانا لتلك المحبة التي جمعتهم في قالب متناقض يكمل بعضه بعضا، فما قيمة النور مالم يكن للظلام سواد في العالم؟

طوعا للحبيب واشتياقا له

لا نختلف في أن السعادة لحظة إخلاص للنفس البشرية، وبامتلاكها قوة الإثارة تمنح القلب شغفا أبديا خالصا للحبيب، والسعادة مرهونة في وجدان كثيرين حياة كريمة، وزينة في الأموال والأولاد وتفاخر بين البشر، ولا يلام من اعتقد ذلك الفهم القاصر كونه مرتبطا بطبيعة الإنسان في حبه للتملك، غير أن السعادة التي يهابها الموت ولا يعجل على قضائها ولا يملك القدرة على فناء شمعتها، تلك التي تتراصّ لها اللحظات على يُسرها كي تجعل القبول الإلهي للمحبين منجاة لهم، وكل أمر تعلّق بسلّم الغني علا واستعلى وتعالى عن شوائب الدنيا وزلاتها، فمن أكرم بالمعراج في ملكوته وانتهى أمره إلى سدرة المنتهى، إلا لأنه اصطُفي قلبه للواحد الأوحد، كي يكون الحبيب والمحبوب على قدر الصفاء والعطاء والرفعة من كرم الخالق.

ولا يكون الاقتران الكلي بين المحبين في مشغلهم وحوائجهم، حتى يبلغ الاهتمام المتبادل روعته بتخصيصه بينهم، فكونه مشاعا بين الخلق دون رقيب، فإنه يزيد وينقص بالرغبة وطول الأمل، إلى جانب أحوال الناس المتقلبة، فالسهولة التي يفتقدها القلب لدى الناس قد ألغت الاهتمام، وأذهبت عنه شوق الحياة، ولم يستطع تمييز صورة الحبيب عمن تشابهت قلوبهم، وما بين الفقد الذي يوجع مع كل تجربة يخوض فيها القلب نزالا مع آخر، وشوقه المتكرر في البحث عن سبيل للانقياد نحو من يهبه مفاتيح سعادته، تكون قبور السماء جاهزة ليكتب عليها أسماء المتحابين، ومن نجا من موته كان العشق سجنا له.

الموت آية الزمان وحجته، والحياة زينته ومستقره، ولولاها ما وجد قهره ولا جبروته، غير أن المحبين بين تلك المنزلتين في أسفار متقابلين، بين روعة الاشتياق وشغف اللقاء، ومن نظر إلى العتمة كيف تغدو غالبة للمتعة وللإثارة، أدرك قيمة النور الذي تنجلي به وحشة الفراق وكثرة العتاب، والكريم من استجار بفضل الحليم وأجزى مُحبه الإخلاص والثبات على العهد، وأبدى ما يفرحه طول الوقت وإن استبدله الزمان بالمصائب، والعاشق من أحسن اللقاء، وأخلص عند الفراق، والغريب من كثر تقلبه بين يد الخلق وألسنتهم، يريد إرضاءهم بما أعجزه الخالق عن تحقيقه.

ولكي لا ننسى أن ما يحوم حول الحبيبين من وساوس وهموم، تكدر عيشهم وتسومهم بخوف الفقد والهجران، فإنها وإن تتالت مع احتكار الزمان لها للعاشقين، فهي بذلك إنما تستعيد معهم ذكرياتهم وآمالهم وحبهم الذي تنجلي معه جميع الكروب، فلا يقتل الود إلا كثرة الوسواس وشهوة الهوس بكل شيء، من أجل ذلك كان على المهموم بحبه أن يتمعن في جوهر من معشوقه، وأن يعتقه من ارتباطه القهري معه، كي يخلص له طوعا، وراغبا به، حينها يحصل ما ترجوه النفس من انقياد بينهما، وتوافق بطيف ألوان الحياة الزاهية.

إن شجرة استوطنت جنان الخلد لم تذكر إلا بخطيئة بشري، لينزل آدم إلى الأرض مع ذريته وتبقى تلك الشجرة في علم الله مكانا وزمانا، ولتكون ذات معنى للبشرية منذ نشأتها وطليعتها وزوالها، حتى إنها لم تكن محرمة لذاتها، بل بقدرة الإنسان على التخلي والتمسك، على الامتثال والانعتاق، فتعاقب منذ تلك الخطيئة تاريخ هجرة النفس البشرية بين متناقضين، عالم تغلب فيه مشيئة الله كل إرادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.