شعار قسم مدونات

مسوغات إصلاح القضاء عند ابن تيمية وابن السبكي وابن خلدون (1)

المدرسة المستنصرية
المماليك أحدثوا تغييرات في المؤسسة القضائية لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء في الإسلام (الجزيرة)

يعدُّ القضاء من أهم ركائز الحكم في أي نظام كان، وإذا أراد المرء معرفة صلاح دولة ما أو فسادها فلينظر إلى قضائها من حيث استقلالية قضاته ونزاهتهم، ومدى قدرتهم على إصدار الأحكام وتنفيذها، وكل ما يتعلق بذلك.

ولما كان فساد القضاء أبرز أسباب فساد الدول مثلما أنه أساس صلاحها؛ أولاه الإسلام اهتمامًا خاصًا، وانبرى فقهاء الإسلام قديمًا وحديثًا يبينون أحكامه وصفات من يتولاه، بل لقد خصته طائفة منهم بالتأليف دون غيره تعظيمًا لشأنه.

لمَّا نخر التمزق أركان الدولة، وعمَّت فيها الاضطرابات السياسية؛ بدأ تدخُّل الحكام في مؤسسة القضاء، وتولية من لا يصلح لها

ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقضاء بين الناس بنفسه في المدينة، وأرسل قضاته إلى الأمصار، وتولاه من بعده الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، ونظرًا لكثرة أعباء الخلافة واتساع رقعة الإسلام؛ استعان عليه بعمر رضي الله عنه فعينه قاضيًا على المدينة؛ ثم بدأت بعض التغييرات تطرأ على شكليات هذه المؤسسة، ومن ذلك التزام الدولة الحكمَ بمذهب فقهي واحد في قضائها، ولكن تلك التغيرات لم تنل من استقلالية القضاة ونزاهتهم.

ولمَّا نخر التمزق أركان الدولة، وعمَّت فيها الاضطرابات السياسية؛ بدأ تدخُّل الحكام في مؤسسة القضاء، وتولية من لا يصلح لها ممن يتوافق مع سياستهم في إدارة الدولة وضمان بقائهم فيها؛ ومن هنا شاع فيها الفساد، ومن نماذج ذلك ما كان في عموم دولة المماليك، الشيء الذي حتَّم على بعض العلماء المصلحين ضرورة التصدي لذلك الفساد، وتقديم رؤى لإصلاحه.

لما ولي الظاهر بيبرس أمرَ المماليك بعد عين جالوت أقدم على تنصيب "قاضي قضاة" لكل مذهب

وقد كان من الإجراءات التي اتخذها المماليك لتكريس شرعيَّتهم في الحكم وإحكام قبضتهم عليه؛ أن عملوا على إحداث تغييرات في المؤسسة القضائية لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء في الإسلام، حيث أقدم الظاهر بيبرس (ت: 676هـ) عام 663هـ على إحداث منصب "قاضي القضاة" لكل مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة، في حين أنه لم يكن في الدول الإسلامية التي قامت قبل المماليك إلا "قاضي قضاة" واحد.

فمنذ عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت: 193هـ) لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت: 182هـ) بتولي منصب قاضي القضاة وحتى زوال الدولة الأيوبيَّة كان يتولى هذا المنصب قاضٍ واحد إما على مذهب الحنفية، أو على مذهب الشافعية. قال القلقشندي (ت: 821هـ): "الأمر في الزمن الأول كان قاصرًا على قاضٍ واحد بالديار المصرية من أيّ مذهب كان، بل كان في الدولة الفاطمية قاضٍ واحد بالديار المصرية، وأجناد الشام، وبلاد المغرب"، فلما ولي الظاهر بيبرس أمرَ المماليك بعد عين جالوت أقدم على تنصيب قاضي قضاة لكل مذهب، وظل لقاضي قضاة الشافعية مكانته واختصاصاته التي لا يشاركه فيها أحد، ففي مجلس السلطان يجلس قاضي الشافعية في المقدمة وخلفه قضاة المذاهب الأخرى، ومن اختصاصاته: النظر في أموال اليتامى والوصايا، والأوقاف وغيرها من الأمور.

واختلفت آراء عدد من المؤرخين والباحثين في الحكم على فعل بيبرس ذلك بين مؤيد ومعارض، وأيَّا يكن السبب وراء إقدام بيبرس على تنصيب قاضي قضاة لكل مذهب؛ فقد كان منصب القضاء في بداية عهد الدولة المملوكية مصانًا مهابًا مستقلًا، وذلك بعد أن أحاطه السلاطين المماليك بهالة من الشروط التي لا بد من توافرها في من يتولى منصب القضاء، والتزموا بها مدة من الزمان، ولذا تولَّى منصبَ القضاء في عهد المماليك الأول عددٌ كبيرٌ من فقهاء الأمة وجهابذتها، أمثال: العز بن عبد السلام (ت: 660هـ)، وتاج الدين بن بنت الأغر (ت: 665هـ)، وأبي بكر بن خلكان (ت: 681هـ)، وابن دقيق العيد (ت: 702هـ) وغيرهم.

وكان من أبرز الدلائل على صيانة منصب القضاء بداية عهد المماليك واستقلاليته؛ أن كانت للقضاة مواقف صارمة في وجه من أراد التدخل بأقضيتهم من السلاطين والأمراء، وعندما كان هؤلاء الأمراء يثقلون في طلباتهم على القضاة؛ كان القضاة يستقيلون من مناصبهم، أو يعزلون.

ثم أخذ الفساد ينخر مؤسسة القضاء عندما أخذت أمور الدولة السياسية تضطرب بدايات القرن الثامن الهجري، وأخذ عدد من القضاة يتدخلون في تلك الاضطرابات؛ مما عرضهم للعزل أو العقوبة من السلاطين المتغلبين، وجرَّأ أولئك السلاطين على التدخل في المؤسسة القضائية، وأصبح القُضاة -عمومًا- أداةً طيعةً في أيديهم.

بلغ من مظاهر الفساد أن أصبح عدد من الحجّاب يفصلون في بعض الأمور الشرعية التي هي من شأن القضاة

وقد شهد عصر المماليك بصورة عامة كثيرًا من التدخلات الأميرية في القضاء، وكان القضاة الذين لا يخضعون لذلك يتعرضون للسجن أو العزل، وذلك بأن ترمى عليهم التهم الباطلة، وتقام لهم المحاكمات المزيفة ونحو ذلك، وكان ممن تعرض لتلك التدخلات من أكابر القضاة: تاج الدين ابن السبكي (ت: 771هـ)، وابن خلدون (ت: 807هـ)، وابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) وغيرهم، وتعرض جميعهم للأذى بسبب رفضهم التدخلات الأميرية، وكان أن ندم ابن حجر على توليه القضاء ندمًا شديدًا لما عانى من تلك التدخلات.

قال السخاوي (ت: 902هـ) يصف حال ابن حجر في ذلك "وتزايد ندمه على القبول (قبول القضاء) لعدم فرق أرباب الدولة بين العلماء وغيرهم، ومبالغتهم في اللوم لرد إشاراتهم وإن لم تكن على وفق الحق، بل يعادون على ذلك، واحتياجه لمداراة كبيرهم وصغيرهم بحيث لا يمكنه مع ذلك القيام بكل ما يرومونه على وجه العدل، وصرَّح بأنه جنى على نفسه بتقلد أمرهم".

ثم بلغ الفساد ذروته في مؤسسة القضاء عندما أقدم السلطان شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون على إحداث ديوان "البذل أو البرطلة"، وكان من فساد مؤسسة القضاء أن تولى عدد من القضاة منصبهم بالبذل والبرطيل، بل لقد تولى بعضهم منصب قاضي القضاة بالبرطيل أيضًا.

وقد بلغ من مظاهر الفساد أن أصبح عدد من الحجاب يفصلون في بعض الأمور الشرعية التي هي من شأن القضاة. وأشار المقريزي إلى ذلك فقال: "ولم يكن عادة الحجاب في ما تقدم أن يحكموا في الأمور الشرعية، فاستمر ذلك فيما بعد". ووقعت بين أولئك الحجاب وبعض القضاة مشاحنات كثيرة رجحت فيها كفة القضاة مرة، وكفة الحجاب أخرى.

هذا ولم يسلم الشهود الذين يقوم عليهم أمر القضاء من الفساد أيضًا، وذلك نتيجة شيوع الرشوة والبرطيل في المجتمع المملوكي، فكثر بينهم شهداء الزور كثرة لم تعرف في الماضي.

لهذا وغيره من صور الفساد الذي عمَّ مؤسسة القضاء؛ قدم ابن تيمية وابن السبكي وابن خلدون رؤى لإصلاح مؤسسة القضاء، كلٌّ حسب موقعه منها، وهذا ما نفصل القول فيه في المقال القادم بإذن الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.