شعار قسم مدونات

محو الأمية الإعلامية

A team of people work creatively together building giant digital tablets, like skyscrapers, and creating the content. Other people download content on their mobile devices. Horizontal composition.
لنا في الصحافة الصفراء أنموذج لمعرفة مدى الشطط والمبالغة التي احتاجت إلى ضبط لنظرية الحرية (شترستوك)

أنت تقرأ الآن، وهذا يعني بأن ثقتي في هذه المؤسسة لم تخِب. لست متزلفا لها؛ فما أقدمه هنا قد يكون مضرا بها، لكنه ضروري لأي مواطن على هذه الأرض، وأخص مواطني كوريا الشمالية، لكنهم مع الأسف يبدو أنهم خارج الأرض وخارج التاريخ؛ لأنهم مغيّبون عما يدور حولهم. نظام كوريا الشمالية الشمولي ودعاياته الحزبية تلخيص صريح لما يعرف بـ"النظرية السوفياتية الإعلامية". رغم انهيار الاتحاد السوفياتي فإن النظرية بدأت مطلقة على سياسته الإعلامية القائلة، بأن الصحافة مملوكة بالكامل للدولة -مثل كل شيء آخر في النظام- وهدفها الدعاية للحزب؛ لا تملك حتى إصبعا تضعها مشيرة إلى هموم الناس ومشكلاتهم.

ظهرت "نظرية الحرية" في الإعلام مستخلصة من النظام الاقتصادي الذي يتلخص بعبارة قالها أحد التجار لوزير المالية الفرنسي جان بابتيست: "دعه يعمل دعه يمر"

هذه النظرية تتجلى نوعا ما في كوبا والصين الآن -أيضا-، لكن سبقها نظرية إعلامية نطلق عليها: "نظرية السلطة". تتفق النظريتان على خضوع الإعلام للحكومة بالكامل، لكن الحكومة التي تسيّر إعلامها -المراقب تماما- بنظرية السلطة، لا تمنع الصحف من الحديث عن موضوعات أخرى، الأهم أن يكون كل حديث يدعم الحكم ويسبح بحمده، ولا يتدخل في النقد، وهذا النمط تلخيص للصحف في ملكيات أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين، وبعض الدول العربية الآن.

كلتا النظريتين ترى بأن على الدولة -لأنها الأعلى والأفهم- أن تحدد ما للمواطن أن يقرأ ويشاهد، فهي ترى بأنها الوصية عليه، لكن سقوط الملكيات وتفجر الثورة الصناعية في أوروبا، فجّر معه فكرة الحرية التي لاحت في الأفق كاتجاه ديني يريد الخلاص من تسلط الكنيسة. بالطبع انعكست الفكرة على كل نواحي الحياة من أدب وسياسة؛ فظهرت "نظرية الحرية" في الإعلام -كذلك- مستخلصة من النظام الاقتصادي الذي يتلخص بعبارة قالها أحد التجار لوزير المالية الفرنسي جان بابتيست، "دعه يعمل دعه يمر".

ترى هذه النظرية بأن الإعلام -أيضا- سوق أفكار حرة، ستتصارع بضائعه أمام القارئ الذي يتخير ما يشاء، فما يفسد يسقط، وما يصمد يبقى. نرى قوة هذه النظرية باستمراريتها إلى هذه اللحظة -نوعا ما بعد بعض التعديلات- في الدول الغربية وأميركا؛ إذ لا قيود على الصحف والإعلام، وله الحق في النشر حتى وإن كان قدحا وذما في الحكومة والمرشحين السياسيين، وهذا نراه رأي العين في سباق الانتخابات الأميركية، على سبيل المثال.

مشكلة هذه النظرية هو شططها، فالحرية عنت كل شيء تماما، حتى وإن كانت موضوعات وأمورا حساسة جدا تضر بالمجتمع، ولنا في الصحافة الصفراء أنموذج لمعرفة مدى الشطط والمبالغة التي احتاجت إلى ضبط؛ فظهرت "نظرية المسؤولية الاجتماعية" التي ترى بأن للصحافة دورا في المحافظة على المجتمع، لكن مرة أخرى دون أي تدخل من السلطة، وضابطها أداء الصحفي ومواثيقه، وقبل هذا مبادئ الصحيفة ومهنيتها. قد نرى هذا متجليا في دول عربية قليلة جدا.

علينا الاعتراف بأن لكل صحيفة أو جهة إعلامية توجهات وخطوط وأيديولوجيات معينة يحدها رأس المال، وعلينا الاعتراف بأنها ليست مشكلة البتة

تبدو الحياة وردية الآن، صحافة حرة من مقص الرقيب: وهو ما يسعى إليه كل صحفي، لكنه في الوقت ذاته عارف بحدوده، وهو ما يريده المجتمع. المشكلة في اختلاف التنظير مع التطبيق العملي، فكل دولة تقول، بألا قيود على الصحافة، وكل صحيفة تقول بتجردها من الانحيازات، وكل صحفي يقسم بأنه حر لا ينحني إلا أمام ضوابط المهنة الأخلاقية، وتبقى النزاهة الصحفية على الأرفف، وبين أوراق الكتب كل يحلف بها.

لا شك أن علينا الاعتراف بأن لكل صحيفة أو جهة إعلامية توجهات وخطوط و"أيديولوجيات" معينة يحدّها رأس المال، وعلينا الاعتراف بأنها ليست مشكلة البتة، قد تتمتع صحيفة ما بشيء من النزاهة تجعلها تلقى احتراما من جمهورها رغم وجود هذه الخطوط. ودون مثالية يمكننا القول، إن الصحيفة نزيهة ما دامت لا تمارس -في سبيل خدمة توجهاتها- الكذب والخداع والتضليل والتحريض، وكل ما يخالف أخلاقيات أي عمل مهني أثناء تقديمها للحقيقة.

والحقيقة بالطبع هلامية مطاطية يود الكل جذبها نحوه للإشارة إليها وفق أفكاره. يقول جاك دريدا، "عندما ننطق بأقوال خاطئة أو مغلوطة ونحن نعتقد أنها صحيحة، ونوصلها إلى الآخرين دون أن نقصد خداعهم، فنحن لا نكذب"، فإن أحسنت الظن -والشك مبدأ إعلامي كما هو معرفي- وثمة صحف تقدم آراء مختلفة، فليس شرطا أن تكون إحداها غير نزيهة، فالحقيقة انعكاس لطريقتنا في النظر إلى الأمور من حولنا.

ولأن ما يحرك الإعلام هو رأس المال -دولة كان أو مؤسسة أو فردا- له مصالحه وأفكاره التي يحاول إيصالها عبر أذرعته؛ فظهرت محاولات عبر التاريخ لتقليص فكرة التوجهات والمصالح للوصول إلى إعلام نزيه يراعي الموضوعية والأمانة قدر المستطاع. هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" كانت المحاولة الثائرة الجديدة للخروج من عباءة رأس المال لتحقيق الاستقلالية؛ فحيادها -المزعوم- كونها مؤسسة إعلامية نتيجة لعدم تلقيها لدعم حكومي، وتمويلها الضخم بشبكاتها وإذاعاتها يأتي بشكل مباشر من جيب المواطن البريطاني عن طريق الضرائب التي تضعها الدولة على كل جهاز تلفاز في بريطانيا.

من غير الممكن الحديث عن موضوعية كاملة أو تامة في مجال الإنسانيات؛ لأنه لا وجود لشخص متجرد من كل أفكاره ومشاعره، وغير متفاعل مع موضوعه بأي نوع من أنواع التفاعل

رغم هذا أصابت كثير من الانتقادات مجموعة "BBC" حتى من داخل بريطانيا، وإن تتبعنا بعض الإحصاءات التي تحلل خطها التحريري سنرى انحيازا نحو جهة ما، فعلى سبيل المثال: أجريت دراسة مقارنة بين المصطلحات التي استخدمها موقعا "BBC" والجزيرة نت أثناء تغطيتهما لمعركة الفلوجة ما بين القوات العراقية وقوات الاحتلال الأميركي، وأنقل هنا نصا يسيرا منها: "الاحتلال"، و"قوات الاحتلال الأميركي"، و"العدو الأميركي"، في حين لم يرِد المصطلحان الأخيران في موقع "BBC" إطلاقا، وجاء ذكر مصطلح "الاحتلال"، إما على لسان متحدث عراقي، وإما ضمن تغطية إحدى الصحف، ولم يرِد بصيغة تحريرية للموقع"، وهذا يأتي قريبا من الرواية الأميركية التي كانت تحاول بثها أثناء تجييشها العالم لتسويغ احتلالها للعراق.

إيميلي وايلدر، صحفية يهودية فُصلت من عملها في وكالة أسوشيتد برس خلال الحرب على غزة في 2021 لأنها دافعت عن الفلسطينيين، أدلت بتصريح تشرح تجربتها قائلة، "من غير الممكن الحديث عن موضوعية كاملة أو تامة في مجال الإنسانيات؛ لأنه لا وجود لشخص متجرد من كل أفكاره ومشاعره، وغير متفاعل مع موضوعه بأي نوع من أنواع التفاعل؛ فهناك انحيازات إنسانية طبيعية، ومشاعر وعواطف، وانتماء مكاني وديني، وهناك أفكار وأيديولوجيات تحرك البشر، وتؤثر في تقويماتهم وأفعالهم".

لم أصل إلى هنا لأقول في النهاية بعدم وجود إعلام نزيه، لكن في ظل تعدد الآراء، وتخلخل الأخلاقيات، وتعذر الوصول إلى حقيقة واضحة، على القارئ أن يكون هو الإعلام النزيه، وهذا يتيسر في محونا لأميتنا الإعلامية، أو التمتع بما يسمى التربية الإعلامية؛ وهي: "القدرة على كتابة وقراءة ما بين سطور ما ينشر في وسائل الإعلام، عبر النقد والتحليل والتقييم".

هذه دعوة عامة لكل مهتم بالوصول إلى الحقيقة، أن يمحو فعلا أميته الإعلامية. ولولا أن الحكومات مشاركة في المشكلة لدعوتها إلى تدريس التربية الإعلامية في كل المدارس مادة إجبارية. وبهذا يتمكن المرء بعد تحليل كل ما يقرأه ويشاهده ويسمعه، أن يزيل الزبد ويحتفظ لنفسه بما ينفع الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.