شعار قسم مدونات

اللباس ومنطق الحريات! (1)

الأصل في فساد المنظومة اليوم هو أيديولوجيا تحررية عملت على الربط بين الحرية وتعرية الجسد المصدر : مركز أضواء للدراسات وجريدة أصوات ..
اللباس يقع في نقطة مشتركة بين متطلبات "النفس" و"الجسد" و"المجتمع" دفعة واحدة وفي الوقت نفسه (مركز أضواء للدراسات وجريدة أصوات)

يتصل اللباس بوجودنا وإنسانيتنا على نحو عميق، ويؤدي وظائف معقدة تدور حول 4 وظائف أساسية:

  1. وظيفة جمالية نتزين بها ونتذوق الفخامة وتشعر النفس بالتأنق والتنعم.
  2. وظيفة بيئية نتكيف بها مع الطقس وظروف الطبيعة حتى تلائم صحة الجسد وراحته.
  3. وظيفة تواصلية اجتماعية نتواصل ونتخاطب من خلال اللباس ونحكي بواسطته الكثير من المعاني والأفكار والرسائل حول الانتماء والمهنة والطبقة والحقوق والمواقف ورؤيتنا للعالم ومن نكون.
  4. وظيفة الحريات نضمن بها حرية الجسد والخصوصية وحرية الآخرين في الفضاء العام، و"الحرية حياة الإنسان بصورته ومعناه" كما يقول الفقهاء المسلمون القدماء (المبسوط: 29/ 176).

حرية اللباس موصولة بحقوق النفس وحقوق الجسد وحقوق المجتمع

الوظيفة الجمالية للباس موصولة بالنفس، والوظيفة البيئية موصولة بالجسد، والوظيفة التواصلية موصولة بالمجتمع، أما وظيفة الحريات فهي تتصل بالنفس والجسد والمجتمع معا، هكذا يقع اللباس في نقطة مشتركة بين متطلبات "النفس" و"الجسد" و"المجتمع" دفعة واحدة وفي الوقت نفسه، يعني هذا عمليا أن حرية اللباس تتحرك في فضاء واسع تتلاقى فيه حقوق النفس وحقوق الجسد وحقوق المجتمع.

فالحريات اختيارات موصولة بالحقوق، ولو كان اختياري ينتهك الحقوق -كأن أختار سرقة مال الغير- فهذا الاختيار ليس حرية بل انتهاك للحريات، كذلك اختياري لملابس معينة إذا كان ضمن نطاق الحقوق فهو حريات، وإذا انفكت الاختيارات عن الحقوق فقد دخلنا في دائرة مناهضة للحريات.

نقطة البدء هذه ستضعنا على الطريق الصحيح للتفكير باللباس والحجاب من اللحظة الأولى. توجد عدة طرق ترتبط فيها الحريات باللباس، ستركز هذه المقالات على طريق واحد وهو أن اللباس يوفر حرية لجسد صاحبه تحديدا.

الحريات وبناء فضاءات خاصة

خاصية الحرية الفردية هي قدرتها على إنشاء فضاء خاص لصاحبها لا يكون متاحا للعموم ولا يتسلط عليه أحد، مثلا الحرية الاقتصادية تبني فضاء ماليا خاصا للشخص يمنع عموم الناس من تدخلين:

  • التدخل المادي المحسوس من خلال التسلط والسيطرة على ما هو حرية لي والتصرف به رغما عني، سواء كان باليد أو اللسان، هنا يقوم الفضاء الخاص بحمايتي من السرقة والاحتيال ابتداء من خلال توفير الأمن أو بإيقاع العقوبات على من يفعل ذلك.
  • التدخل الرقابي المعلوماتي من خلال الاطلاع والمراقبة والتلصص لمعرفة مقدار الدخل الشهري وكيف أتصرف وأنفق مالي وما أخطط له، حيث يقوم الفضاء الخاص بإنشاء حجاب يحجب المعلومات وإمكان الوصول للمعلومات المتعلقة بأموالي، مع توفر هذين المؤشرين jكون هناك حرية اقتصادية فعلا.

مؤشر الحرية الفردية هو قدرتها على إنشاء فضاء خاص لصاحبها لا يكون متاحا للعموم ولا يتسلط عليه أحد

كيف تقوم الحرية ببناء الفضاء الخاص عمليا؟

تعمل الحرية في المرحلة الأولى على بناء الفضاء الخاص باستخدام أدوات -واقعية وحقوقية- تفتح مساحة حرة للشخص، ثم تعمل في المرحلة الثانية على حماية الفضاء الخاص بتشييد أسوار تمنع الآخرين من التدخل به بالاطلاع والمراقبة أو التسلط والتحكم، لأنه لا حريات بلا حرمات، فالحرية والحرمة طرفان لحقيقة واحدة.

أداة بناء الحرية الاقتصادية هي الملكية الخاصة التي يتمكن بها من ممارسة أعماله وتحصيل المزيد من الأموال، من دونها تصبح أملاك الشخص شأنا عموميا تتدخل فيه الدولة والأفراد، الأسوار الحامية لهذا الفضاء نجد مثلا تحريم أخذ مال الغير وعقوبات السرقة والاحتيال، ومنع السلطة العامة من انتزاع الملك الخاص إلا تحت شروط مشددة لأجل مصلحة عامة حقيقية.

الحرية السياسية بدورها تبني فضاء سياسيا خاصا للشخص يجعله قادرا على المشاركة السياسية، أدوات بناء هذا الفضاء الخاص متعددة، منها حق الفرد في اختيار من يمثله ويحكمه، وسرية التصويت، ووجود مجلس نواب حقيقي، والأسوار التي تحمي الحرية السياسية مثلا تجريم التغلب والانقلاب ووضع عقوبات رادعة لمن يحاول القيام به، ووجود ضمانات ومؤسسات فعلية تعيق الجيش أو أحد الأطراف من تنفيذ انقلاب أصلا، ودون وجود هذا الفضاء الخاص ليست هناك حرية سياسية، ودون وجود أدوات ووسائل حقيقية تبني هذا الفضاء الخاص ستكون الحرية السياسية كلاما فارغا حيث تتولى الأمور فعليا السلطة أو الحزب الأوحد.

إنشاء الفضاء الخاص للجسد يتطلب من الأفراد استخدام أدوات ووسائل تضمن حريتهم، أبرز هذه الأدوات اللباس الملائم وضبط حركات الجسد ونمط التزين وأسلوب الكلام والتصرف

حرية الجسد.. بناء فضاء خاص بالجسد

حين تتصل الحرية بالوجود الاقتصادي للفرد تنشئ فضاء اقتصاديا خاصا به، وحين تتصل بوجوده السياسي تنشئ فضاء سياسيا خاصا به، هكذا تقوم حرية الجسد بإنشاء فضاء خاص للفرد في وجوده الجسدي، بحيث يتمكن من السيطرة على جسده وكيف يتعامل معه الناس، لولا هذا الفضاء سيكون الجسد شأنا عموميا متاحا لعموم الناس أن يتدخلوا به، سواء بالاطلاع والمراقبة أو بالتسلط والإكراه.

أحد الأشكال البسيطة لهذه الحرية سرية المعلومات الطبية، فهي معلومات عن صحة الجسد وأمراضه، لولا حرية الجسد لأمكن للطبيب أن ينشر سجلي الطبي على العموم ويجعله متاحا للناس، لكنه ممنوع من ذلك بسبب حريتي التي تنشئ فضاء خصوصية يحجب تلك المعلومات. بل إن الفضاء الخاص يوفر حرية الجسد في المكان العام، فمن حق الأفراد ألا يكونوا مراقبين في بيئات عامة، لذلك يمنع التصوير أو التسجيل السري في الأماكن العامة، والحرية هنا تصطحب معها الأمان والثقة والراحة، ومن السخافة اعتبار أن المراقبة والاطلاع لا ينتهك الحرية.

إنشاء الفضاء الخاص للجسد يتطلب من الأفراد استخدام أدوات ووسائل تضمن حريتهم، أبرز هذه الأدوات اللباس الملائم وضبط حركات الجسد ونمط التزين وأسلوب الكلام والتصرف، ويتطلب وجود أسوار حامية تضمن الخصوصية، أبرزها غض البصر وعقوبات النظر للعورات والتحرش وتحريم الخلوة.

حرية الحد الأعلى تمنع عموم الناس من التدخل المادي والتدخل الرقابي معا

التسلط مبني على الاطلاع والمراقبة

من خواص الحرية الفردية أنها تمنع الآخرين من التدخل في الفضاء الخاص، لكن ما نوع التدخل الذي تمنعه؟ حرية الحد الأدنى تمنع عموم الناس من التدخل المادي في الفضاء الخاص لكنها تتيح التدخل بالاطلاع ولا تعتبره تدخلاً ينتهك الحرية، أما حرية الحد الأعلى فتمنع عموم الناس من التدخل المادي والتدخل الرقابي معا، لكن لماذا الاطلاع والمراقبة هو تدخل ينتهك للحرية طالما لم يحصل فعل ملموس كالإكراه والغصب؟

في المنظومة القرآنية يجري توصيف النظر والمراقبة أنها تدخل بشؤون الآخرين يوازي التدخل العنيف باليد: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (سورة طه/ الآية 131) يصور القرآن النظر والمراقبة باعتبارها تدخلا يمتد وينتهك فضاء الحرية الخاص، كما يحرم أن تمد يدك يحرم أن تمد عينك إلى أشياء وأجساد الآخرين.

التسلط والتحكم والهيمنة في العصر الحديث يتأسس بالدرجة الأولى على عنصر الاطلاع والمراقبة والمعرفة، كما يشرح فوكو وجيل دولوز وباومان وغيرهم كثير، تتم عمليات التحكم والهيمنة والتدخل المادي استنادا إلى كمية الاطلاع والمراقبة، فالجسد غارق في "علاقات السلطة تُمارِس عليه تأثيرا مباشرا، إنها تستثمره توسمه تروِّضه وتعذبه، تفرض عليه أعمالاً، تلزمه باستعراضات وتطالبه بإشارات.. والسلطة تستمتع بالمساءلة والترصد والمراقبة والتفتيش والكشف" (المعرفة والسلطة، فوكو: 88).

ومع تطور الحياة والتكنولوجيا تضيق وتتلاشى المسافة بين التدخل الرقابي والمادي، فمجرد اطلاع عامة الناس على كلمة سر حسابك البنكي تكون سرقة أموالك جارية بلا هوادة. بينما يتمثل دور التحفيز في أن المراقبة المفتوحة لعموم الناس على شؤوني تغريهم بالتدخل المادي، لأن عموم الناس يشكلون سلطة عمومية تنزع للتسلط والإخضاع.

اللباس ومعه الحجاب يعملان بوصفهما تقنية تقوم على تحويل المراقبة والتسلط من الجسد المكرم إلى اللباس الذي يتحمل المراقبة والضغط بدلاً من الجسد نفسه

اللباس بوصفه أداة لمواجهة التسلط

"المراقبة أحد الأبعاد الرئيسية للعالم الحديث" كما يقول ديفيد ليون، حتى أنها دخلت مرحلة "المراقبة السائلة" التي تتسرب وتسيل في كل المواقف والتفاصيل، الكل يراقب الكل في الحياة الحقيقية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حرية الجسد تتطلب وجود أدوات فعالة تحمي الشخص من التدخل المادي والرقابي وتمنع من انتهاك الفضاء الخاص للجسد، يرى فوكو أن التعري يمكن أن يحرر الجسد من سلطة المجتمع وتدخله، ومن هنا شاعت فكرة التعري بوصفها أداة للاحتجاج والتغيير، إذا ارتفعت أسعار الغاز أو زاد التلوث البيئي تقوم مجموعة من النساء والرجال بالتعري للمطالبة بتغيير الوضع، هذا مقترح عجيب، كيف نعتبر أن المراقبة تولد سلطة وهيمنة اجتماعية على الجسد، ثم يكون الحل أن نزيد كشف الجسد وتعريضه للمراقبة؟!

لأننا في العصر الحديث تحديدا فنحن بحاجة لاستخدام أدوات تحجب السلطة العمومية عن مراقبة أجسادنا، فأكثر الأجساد استعدادا للتدخل بها وأكثرها خضوعا للتسلط والهيمنة هو أكثرها انكشافاً أمام الناس، حين نتحدث عن الحرية بشكل جاد يجب أن نتحدث عن ضمانات فعلية للحرية "أدوات تضمن الحرية في الواقع الحي"، وحين نكون مهتمين حقيقة بحرية الجسد يجب أن نعطيه حريات الحد الأعلى، فنبحث عن أدوات تحرره من التدخل المادي وتقلل قدرة الآخرين على مراقبته.

اللباس ومعه الحجاب يعملان بوصفهما تقنية تقوم على تحويل المراقبة والتسلط من الجسد المكرم إلى اللباس الذي يتحمل المراقبة والضغط بدلاً من الجسد نفسه، هذا يعطي الشخص القدرة على التحرك والوجود في الأماكن العامة بحرية دون أن يشعر بالضغط والتسلط المباشر على جسده، وبهذا الشكل يمكن للشخص أن يستمتع بالحرية والخصوصية كيفما تحرك، من هذا المنطلق اشترط الفقه الإسلامي ألا يكون اللباس لافتا للنظر وألا يجسّم الأعضاء، فهذا الشرط يحقق مهمة أساسية وهي إبعاد الجسد عن المراقبة وما يحفز على المراقبة والنظر.

منطق الحرية واللباس يسيران في اتجاه واحد، ومنطق القمع والتعري يسيران في طريق واحد، لأن اللباس هو الأداة الرئيسية للحرية في إنشاء الفضاء الخاص بالجسد، والتعري هو الأداة الرئيسية المعادية لحرية الجسد.

الأصل العام أن المزيد من اللباس يعني المزيد من قابلية التحرر والقوة، والمزيد من التكشف يعني المزيد من قابلية الخضوع والقمع، لأن التكشف والتعري أمام الناس يعمل على تمزيق الفضاء الخاص وجعل الجسد شأنا عموميا خاضعا لأدوات الهيمنة والتدخل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.