شعار قسم مدونات

السلطة والتعليم وشيوع الشذوذ!

باربي.. أكثر من مجرد دمية
مجرد حظر وقتي بواسطة السلطة للكتب أو الأفلام عبث ومضيعة للوقت (مواقع التواصل)

بين الفينة والأخرى تقوم بعض الحكومات بحظر أفلام معينة بدعوى أنها تروج لفكر ما شاذ حسب ادعائها، وربما يكون هذا الادعاء صحيحا. لكن من الواضح أن حظره يبدو فعلا بلا هدف؛ لأننا سنجد على مواقع التواصل ما يروج لمثل هذه السلوكيات والميول وهي سياسية بمظاهر إنسانية. وكما نعلم، لقد أصبحت مواقع التواصل هذه هي العبودية الجديدة وأصبحنا نحن كسمكة حمراء تدور في إنائها الزجاجي دون توقف مفرغين من كياننا.

وقد شرح الصحفي الفرنسي برونو باتينو -في كتابه "حضارة السمكة الحمراء"- النتائج السلبية والنفسية لهذه المواقع التي أخذت تسيطر على العقل وتصرفات الإنسان، وكيف أخذت الشركات الرقمية الكبرى بالتعاون مع السياسيين والتجار ووكالات الأمن على "زيادة البيانات الشخصية ومراكمتها باللجوء إلى سبل الإغراء والغواية واستقطاب الانتباه وصولا إلى الإدمان على الشاشات".

وبهذا يكون الحظر بلا فائدة، وبدلا من ذلك على الحكومات هذه -وطلبي هذا يبدو مثاليا- أن تحارب الشذوذ في الفضاء الإلكتروني إن استطاعت (وهي لن تستطيع أبدا). وبما أن الفشل محتوم لمثل هذه السياسات بواسطة الحظر، فإن أبرز ما قد نلجأ إليه هو التعليم السوي حول طبيعة الرجل والمرأة البيولوجية والنفسية.

لقد أصبحت مواقع التواصل هذه هي العبودية الجديدة وأصبحنا نحن كسمكة حمراء تدور في إنائها الزجاجي دون توقف مفرغين من كياننا

التعليم والسلطة

لكن نحن نعلم حقا أن أول مظاهر السلطة التي يتلقاها الطفل هو المؤسسة التعليمية بتلك الصرامة والهرمية المزعجة والتي تدعو للريبة من رتابتها والمدى الذي يمكنها أن تحقق به النجاح الأسمى لهؤلاء الأطفال الناشئين، والذين سيكون لهم فيما بعد دور فعال أو غير فعال، وهو المتوقع في التقدم الإنساني، في بلدانهم.

ويصف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو التعليم بأنه مؤسسة مراقبة سلطوية، وما من هدف له سوى تدجين الإنسان وحوكمة ذهنه فـ "يهدف النظام التعليمي إلى تبعية مجال الكلام والمعرفة والقوة لأنظمة الهيمنة". وذهب أبعد من ذلك حين قال "كل الأنظمة التعليمية صنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة" ولحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى. "وبذا تخرج العملية التعليمية من أي قيمة ذات غاية معرفية ترتكز على حرية التفكير والنقد البناء".

وبالتالي إن فقدان قيمة التعليم يرجعنا وبتسلسلية لطبيعة السلطة أصلا والتي تحاول بشتى الوسائل السيطرة على المواطنين، لا ككيانات حرة بل كأدوات يمكن من خلالها تنفيذ سياسات كاملة بمعايير مختلفة تبعا لطبيعة النظام السلطوي الموجود في كل بلد. وبشكل عام وشامل، فإن الدول إنما تؤسس بنى تحتية تعليمية موجهة لا من خلال البيروقراطية وحسب إنما من خلال طبيعة المنهج المعطى وطبيعة التعليم بأساسه.

تنامي ظواهر الشذوذ

بهذا يعتبر تنامي بعض الظواهر التي يقر بشذوذها أو عنفها من نتائج تعاملات السلطة ذاتها وليس نتيجة مباشرة لقوى استعمارية محتكرة. دون أن نغض النظر عن التأثير الثقافي الموجه الذي يؤثر على الحالة الاجتماعية لشعب ما، بالتزامن مع التعاملات السيئة للسلطة، إذ يؤدي هذان العاملان الوظيفة ذاتها، أي نشر غير مسيطر عليه لمجموعة أفكار في بلد ما غير خاضعة لأي قوانين فكرية أو اجتماعية خصوصا وأن بيئة الفضاء الإلكتروني مناسبة وجذابة لبث مثل هذه الظواهر للشعوب المقهورة.

ومحاولة التأسيس الجاد لبنية جديدة بواسطة السلطة -وهذا مطلب بعيد التنفيذ تماما-هي أولى مراحل بناء رؤى ديناميكية حول هذه الظواهر، أي ظواهر الشذوذ وكيفية التعامل معها. ولعل هذه المحاولة تحتاج لكثير من الوقت والجهد للوصول إلى ذاك المستوى المأمول. وإن المستوى الطموح من التأسيس الفكري الشامل لدولة ما يأتي بالدرجة الأساس كنتيجة للتطور الحاصل في الوعي الإنساني العام.

تنامي بعض الظواهر التي يقر بشذوذها أو عنفها من نتائج تعاملات السلطة ذاتها وليس نتيجة مباشرة لقوى استعمارية محتكرة

الخلاصة

جوهر ما أردت الحديث عنه أعلاه هو أن مجرد حظر وقتي لمجموعة أفلام مثلا أو كتب بواسطة السلطة، إنما هو عبث ومضيعة للوقت، ولعل هذا الحظر أصلا يصب في مصلحة السلطة بوجه ما.

أخيرا أقول إن محاولة السيطرة التي تدعيها السلطة بدعوى محاربة الفكر الجندري الحديث ما هي إلا التفاف سلطوي برؤى جادة لفرض مزيد من التحكم والتلذذ فيه. نعم، لقد كان هذا الالتفاف ماكرا بقدر ما هو مفيد في أطر ضيقة جدا يردعه الفضاء الإلكتروني غير المسيطر عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.