شعار قسم مدونات

التخوم الحضارية وأهلها (1)

غزة - يونيو حزيران - 2015 رمضان- عناصر من كتائب عز الدين القسام أثناء قيام الليل في الثغور القريبة من الاحتلال
ملازمة المساجد وانتظار الصلاة من معاني الرباط التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم (الجزيرة)

لطالما استهوتني حياة أهل الثغور في التاريخ الإسلامي، وكنت أسأل نفسي كيف تكون الحياة في بقعة تمازج بين السلم والحرب وبين الدعة والأهبة وبين الاستقرار والاستنفار، كما يمازج اليوم بين الليل والنهار، ما إن يتم حال حتى يؤول إلى آخر. هذه الدينامية الحية لها وقعها الشديد على القلوب والعقول كما في الأجساد، فتقلب الأحوال لا يدع القلب يقر إن كان منشغلا بكل حالة، وكذا العقل لا ينفك عن سبر أغوار الأحداث والتنبؤ بمآلات الأمور والترصد لما هو آت، وأخيرًا الجسد يغدو منهكًا بين صيحات التغير والسعي إلى الأرزاق وحاجات المعاش. لعل هذه الحالة الخاصة من أسباب الثواب الجزيل الذي وعَد به أهل الثغور ([1]) ومنَّ عليهم بسكينة تعينهم على تقلب الدهر وتثبتهم عندما تدلَهِم الخطوب. وكنت، كذلك، أعجب من هؤلاء العلماء والصالحين الذين يسيرون إلى هذه البقاع فيسكنونها([2]) أو يمضون بها فترات طويلة متكررة كما كان يفعل علماء أفريقية (تونس الآن) في طرابلس الغرب أو الإمام الأوزاعي في لبنان حين كانوا يأخذون طلابهم ويرابطون في الأربطة على سواحل البحر المتوسط يزاوجون بين الحراسة وبث العلم وشرح المسائل.

ولعل بعض أسباب هذا الحرص من العلماء على العيش والحضور في هذه الثغور والأربطة أنها تفيد ما لا يفيده العلم وحده وتكسب القلب والعقل والجسد ما لا تكسبه سائر البقاع ذات الدعة والتجارة والحياة الرتيبة ([3]).

لذا فقد أعملت بعض فكري في ذلك وعنت لي أسئلة كثيرة أحاول سبرها في هذه المقالة ومنها، ما هي خصائص هذه الأماكن وأهلها؟ أهذه الدينامية خاصة بالحدود الجغرافية أم أنها أوسع من ذلك لتشمل كل تخوم بين حضارتين؟ كيف نشأ فقه الثغور والأربطة ليدعم جهاد أهل هذه البلاد وكيف يكون الاجتهاد والمناط الآن إن تبدل معنى التخوم من حيز الجغرافيا إلى حيز الحضارة؟ وغيرها من الأسئلة.

التخوم في أشهر تعريفاتها تشير إلى الأرض المحاذية للحدود وتمثل الجبهة الأمامية للدولة وهي متسعة بخلاف الحدود التي تمثل شريطًا رفيعًا يفصل بين دولتين سياسيًا.

مقدمات لابد منها

حين نقارب موضوع التخوم الحضارية من خلال قراءة في فقه الثغور فلابد من التأكيد أننا لا نقوم بقياس فقهي من أي نوع، لأننا -بالطبع- لسنا أهلا لذلك، وهذا القياس المباشر له أهله من العلماء في تحديد العلل المشتركة وضبطها ومناطها وتنزيلها، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب ونعوذ بالله من ذلك ولكن نسترشد بالتراث لفهم عالمنا الحديث فلعل ذلك المنظور يفتح أبوابا للفكر والاعتبار تعين على الاشتباك مع الواقع من منطلق قيمي ويسفر عن فهم أعمق للدور المنوط بأهل هذه التخوم الحضارية.

لقد آثرنا استخدام مصطلح التخوم وليس الحدود أو الثغور لأن التخوم في أشهر تعريفاتها تشير إلى الأرض المحاذية للحدود وتمثل الجبهة الأمامية للدولة، وهي متسعة بخلاف الحدود التي تمثل شريطًا رفيعًا يفصل بين دولتين سياسيًا، ففي إطار التماس الحضاري يكون التماس ذا صبغة متشعبة واسعة وليس سياسيًا بطبعه فتكون السعة التي تميز ميدان التفاعل الحضاري بين أمتين أقرب إلى كونها في التخوم وليس الحدود المحاذية للحضارتين. وكذلك لم نعتمد لفظة الثغور (وإن كانت الثغور هي مفتاح الولوج إلى التراث لملاءمة الواقع التراثي) لأنها محملة ببعد حربي قتالي لا يناسب طبيعة التماس الحضاري الذي يسعى للتأثير والاستلاب من محاور العقل والوجدان قبل الجسد والأرض.

وهكذا، فكلما قيل في تعريف التخوم: هي مفصل ما بين الكورتين القريبتين، نقول في تعريف التخوم الحضارية: هي محل مزج وتماس حضارتين.

وإذا تحولنا إلى التراث لنتلمس كيف كان العلماء يعرفون الثغور (وهي الأقرب كما قدمنا إلى معنى التخوم) فهي الأماكن التي يُخشى منها ولوج العدو وأهلُها على تخوف من مداهمة العدو بما يصيب بيضة الدين وإقامة الشعائر ولذلك أهلها على حال تيقظ دائم.

التخوم الحضارية وخصائصها

كما قدمنا في تعريف التخوم الحضارية هي تلك البقاع التي ينشط فيها التماس بين حضارتين، فالتماس بين الحضارات في عصرنا الحالي موجود تقريبًا في كل مكان، ولكن التماس النشط هو الذي تهز به إحدى الحضارات أركان الحضارة الأخرى في محاولة منها للسيطرة أو العلو أو الاستلاب أو ترسيخ التبعية، وهو الذي يميز مناطق التخوم الحضارية. وبهذا المعنى فهي تشمل بقاعا جغرافية شتى كما هو الحال في الدول التي يمتاز سكانها بتنوع حضاري وإرث تاريخي متنوع نتيجة لحداثة نشأتها كما هو الحال في الدول الحديثة كدول أمريكا الشمالية وأستراليا أو كهذه المجتمعات التي مازالت تحيا حراكًا حضاريًا تنافسيًا بين قطاعات المجتمع ونخبه كما هو الحال في الدول الأفريقية، مثلا، التي لا تزال تتنازعها مشاريع حضارية مختلفة على أسس تاريخية أو استعمارية أو دينية. وبهذا المعنى أيضًا قد يتسع مفهوم التخوم الحضارية أبعد من الجغرافيا ليشمل ميادين ومؤسسات ينشط فيها هذا التماس بالشكل الذي أشرنا إليه سواء كانت علمية أو فنية أو ثقافية أو غيرها، والقائمون الفاعلون في هذه المناطق أو المؤسسات هم أهل تخوم حضارية.

وإذا تحولنا إلى التراث لنتلمس كيف كان العلماء يعرفون الثغور (وهي الأقرب كما قدمنا إلى معنى التخوم) فهي الأماكن التي يخشى منها ولوج العدو وأهلها على تخوف من مداهمة العدو بما يصيب بيضة الدين وإقامة الشعائر ولذلك فأهلها على حال تيقظ دائم يعرف اصطلاحًا بالمرابطة أي الإقامة على الشيء والملازمة له والمداومة عليه والانحباس فيه ([4]). ولذلك كانت ملازمة المساجد وانتظار الصلاة من معاني الرباط التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ([5]).

فإذا اتسع معنى الثغر ليشمل التخوم الحضارية فإنه يمكن الاستئناس بما أشار إليه التراث (وليس ذلك قياسًا شرعيًا كما قدمنا) بأنه إذا كان رباط أهل الثغور قائما على أن تشعر عدوك بأنك مستعد دومًا للقائه ([6])، فإن رباط أهل التخوم الحضارية قائم على الاستعداد المستمر للتفاعل مع الحضارة التي تريد الهيمنة ونماذجها ومنتجاتها واستيعابها ثم تجاوزها في كل ميدان بما يدفع عمّن خلف أهل هذه التخوم من عموم الأمة أخطار الاستلاب الحضاري وإرشادهم إلى حقائق هذه النماذج الحضارية بسلبياتها وإيجابياتها من خلال هذا التفاعل المستمر. إن أهل التخوم الحضارية قد فقهوا أنهم على خط التماس الحضاري النشط فحبسوا أنفسهم بذلك حراسة لهوية الأمة لعلهم يصيبوا من ثواب الرباط بِسهم وفير.

 

هوامش

  •  ([1]) روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها.
  •  ([2]) انظر الإمام المحدث الورع عبد الله بن المبارك مثالا.
  •  ([3]) انظر ما قاله عبد الله بن المبارك: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم.
  •  ([4]) المحيط في اللغة، للصاحب ابن عباد (2/319).
  •  ([5]) انظر الحديث: (ألا أدلكم… صحيح مسلم (110).
  •  ([6]) الرباط وأحكامه في الفقه الإسلامي، محمد الأسطل مكتبة آفاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.