شعار قسم مدونات

البطولة في الرواية والحياة!

"ShutterStock, Shutter Stock, above, app, books, bookshelves, business, cellphone, cellular, choice, communication, concept, display, displaying, diversity, e-book, education, extruding, hand, haphazard, hardcover, heap, information, internet, knowledge, learning, library, literature, many, mobile, novel, online, phone, pile, publication, reading, recreation, reference, screen, search, shelving, smartphone"
الرواية الحديثة قتلت البطل بمفهومه التقليدي لصالح التدفق السردي والوصف الشعوري (شترستوك)

هل ما زال من المقبول أن نتحدث عن رواية أدبية بشخصية بطولية واحدة؟ وهل ما زال من المقبول أن نبحث في أي نص روائي عن الشخصية التي تدور حولها حبكة الأحداث لنسمها بصفة البطولة بالمعنى الأدبي لا بالمعنى المعجمي الذي يدور حول شجاعة نادرة وشدة بأس أو عمل خارق.

والبطل بمفهومه التقليدي يكاد يتلاشى في كثير من الأعمال الأدبية الحديثة، وهذا برأيي قد يكون شيئا مبشرا بوعي من قبل الكتاب والمبدعين بأن الرواية الأدبية صورة لحياة مصغرة من حياة البشر في الواقع. والحياة في الواقع تخلو من شخصية البطل الأوحد الذي يتحكم بالأحداث أو تتمركز حوله.

لا أميل إلى التسميات المقولبة التي تخضع النصوص لقواعد لا تسهم في عملية تطور الكتابة الإبداعية بل تحد من حيويتها

والحياة في حقيقتها مجموعة أفراد تتجاذبهم خيوط إنسانية كثيرة، ويتقاطعون فيما بينهم بعلاقات متداخلة يصعب فصل الكثير منها أو تأطيرها بإطار معين. ومفهوم البطل التقليدي الذي اعتدنا دراسته في أدبيات عناصر الرواية لم يعد مستساغا في الرواية الحديثة التي تعطي كل شخصية في العمل الأدبي مساحتها المناسبة لتتحرك وتبرز خصائصها وانفعالاتها وتفاعلها مع الأحداث، مهما كانت هذه الشخصية في العرف الأدبي ثانوية.

وفي الحقيقة لا أميل إلى التسميات المقولبة التي تخضع النصوص لقواعد لا تسهم في عملية تطور الكتابة الإبداعية بل تحد من حيويتها. وحبذا لو اصطلح النقاد العرب على مفاهيم جديدة، تتوسع في التعريفات النقدية لعناصر العمل الروائي حتى تصبح أكثر مرونة في تعاطيها مع حركة الشخصيات وحيواتها المتشابكة داخل جغرافيا النص وزمنه. فبدلا من تقسيم الشخصيات إلى شخصية البطل أو شخصية رئيسة وثانوية، يمكننا أن نصف الشخصية بفاعليتها داخل النص وقدرتها على المشاركة الفاعلة في الحدث، وإن لم تصنع الحدث أو تشارك في صنعه، فهي لا بد أن تمتلك سمات التأثر بالحدث والتفاعل معه او الانفعال به، وإن كنت ممن يعترفون بوجود قواعد عامة بالمجمل لكل فن أو حتى مهنة أو حرفة تميزها عن غيرها وتحفظ لها (وجوديتها) وعدم ذوبانها في غيرها مما يختلف عنها، فالرواية مثلا عليها أن تحافظ على خصوصيتها كعمل سردي نثري طويل تتعدد فيه الشخصيات وتتنوع فيه أساليب الوصف والحوار.

ولو أخذنا رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ مثالا، سنجد أن الشخصية في هذا العمل منفردة في علاقتها بالشخصيات الأخرى، حيث لا تملك تلك الشخصيات المصاحبة لشخصية عمر الحمزاوي البطل الرئيس الذي ينجز أعمالا يعجز عنها البقية، ويظهر في الرواية بمظهر شخصية تجذب الشخصيات الأخرى، بل إنها تبدو منشغلة تماما بشخصيته ولا نرى وجودا خاصا يعينننا على فهمها، تبدو مسخرة بالكامل للكشف عن شخصية (البطل) عمر الحمزاوي الذي يسعى إلى تحقيق هدفه في الحياة والذي لابد له من وجود شخصيات جانبية تتحرك بالقرب منه تعينه على بلوغه.

وفي المقابل، من يقرأ رواية "الإخوة كارامازوف" للأديب الروسي ديستوفسكي يعرف أن مفهوم البطولة المطلقة التي تضطلع بها شخصية واحدة في العمل الروائي تكاد تكون غائبة تماما عن مكونات الرواية، ولكن ذلك لم يفقد النص مصداقيته وحيويته، ولم يقلل من قيمة الأفكار العظيمة التي ناقشها الأديب الروسي في روايته. وكثيرا ما نتساءل عن السر الذي أودعه ديستوفسكي في عمله الذي ما زال متربعا على قائمة الإعجاب والثناء من أجيال القراء المتعاقبة.

البطولة في العمل الأدبي بمفهومها الضيق لم تعد من الأشياء التي يسعى إليها الكاتب الواعي لرسالة الأدب، فالحياة لا تقوم على بطولة فردية على الإطلاق

والإجابة التي أركن إليها أنه أضفى على الشخصيات في الرواية صفات حية تماما بالمعنى الحقيقي، وليس مجرد أخيلة تمور في عقله يعالجها ببراعة قلمه مرارا حتى يلبسها لباس الحياة والواقعية الفاعلة. فقد جعل كلأ منها يحمل جزءا هاما من البناء السردي الذي اعتمد على بث جملة من الأفكار العميقة التي تتناول خلطة جدلية من ثنائيات متضادة حيث الأسرة المتآلفة في ظاهرها، لكنها في حقيقة علاقاتها تمثل صراع البشرية على المادة.

والبطولة في العمل الأدبي بمفهومها الضيق لم تعد من الأشياء التي يسعى إليها الكاتب الواعي لرسالة الأدب، فالحياة لا تقوم على بطولة فردية على الإطلاق، فكل فرد في موقعه يحمل جزءا من بطولة ما بالمعنى الواسع للكلمة، وهذا ما يحيلنا إلى الإشارة إلى مفهوم البطل في الرواية الحديثة التي عززت فكرة (اللابطل) في العمل الروائي، ويمكننا القول إن الرواية الحديثة قتلت البطل بمفهومه التقليدي لصالح التدفق السردي والوصف الشعوري، ومنحت فرصة ذهبية لبقية الشخصيات التي كانت تتلاشى وتختبئ خلف البطل لتطل برأسها وتعبر عن نفسها وتشرح مشاعرها وانفعالاتها، وتقنعنا بأهمية دورها في الحكاية وأنها عمود أساسي لجمال المبنى والمعنى.

فالحياة لا تقوم على بطولة الفرد وكذاك الرواية، بل على الرواية أن تكون قادرة على إقناع القارئ أنه لا متعة في اختزال العبقرية في شخصية واحدة وأن الجمال الحقيقي الذي يصنعه الأدب يتموضع في مصداقية الشخصيات التي تجعل أحداثها البسيطة وصفاتها المتواضعة عنصرا بطوليا هاما ينهض مع غيره من أركان البناء الفني برسم صورة بهية، باذخة في تمكين صورة فريدة للنص في ذهن المتلقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.