شعار قسم مدونات

الحرب الناعمة.. الضعيف لا بد من افتراسه

A team of people work creatively together building giant digital tablets, like skyscrapers, and creating the content. Other people download content on their mobile devices. Horizontal composition.
الحرب الناعمة تستهدف العقول والأفكار والقيم والأخلاق والهويات والأديان بالتحريف والتزييف والتجريف بدون استعمال أي سلاح مادي عنيف (شترستوك)

يعد مفهوم "الحرب الناعمة" من المفاهيم التي استحدثت في عالم الحروب كما عبر عن ذلك جوزيف ناي في كتابه "وثبة نحو القيادة" 1990، وأعاد استخدامه ضمن كتابه "مفارقة القوة الأميركية" 2002، ثم طور هذا المفهوم في كتابه "القوة الناعمة" 2004 وتعني "استخدام كافة الوسائل المتاحة للتأثير على الآخرين بدون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية".

فمصطلح الحرب الناعمة هو مركب إضافي يتكون من كلمتين تبدوان متناقضتين: "الحرب" و"الناعمة"، فالحرب عبر التاريخ لم تكن ناعمة، وذلك بالنظر لأمرين:

  • الأدوات: ففي الحرب تستخدم الأسلحة الفتاكة ذات القوة التدميرية الهائلة.
  • النتائج: فنتائج الحرب تؤول إلى سفك الدماء ونهب الثروات وتدمير بنيتها التحتية للدول.

أما "الحرب الناعمة" فهو مصطلح تسويقي صاغته الأدبيات الإمبريالية الحديثة التي طورت تقنيات الحروب مستبدلة وسائلها الخشنة، بأدوات أكثر إثارة وجاذبية وفاعلية. فمن حيث الأدوات: أصبحت التكنولوجيا الحديثة والإنترنت والإعلام والمال والفن والرياضة والسينما والثقافة؛ أسلحة جديدة لاكتساح المساحات الشاغرة في عقول الشعوب المقهورة القابعة تحت نير الجهالة والاستبداد والفقر.

أما من حيث جهة الأهداف: فالحرب الناعمة تستهدف العقول والأفكار والقيم والأخلاق والهويات والأديان بالتحريف والتزييف والتجريف، بدون استعمال أي سلاح مادي عنيف، ومن نتائجها: إحلال الفتن الطائفية وتكوين فيالق الخونة والمتعاونين وتحطيم القيم الأخلاقية لدى الشباب والنساء والرجال، وإغراق الفكر في بحور الترف والتفاهات والسفاسف والشبهات والجدالات العقيمة.

وفي خضم التحولات الثورية التي يشهدها عالم اليوم، ظهر العديد من التهديدات الجديدة التي تهدد الأنساق الثقافية والفكرية والسياسية للمجتمع، فتؤثر على أمنه الفكري والأخلاقي والعقائدي، ومن ثم تجره نحو سلوكيات منحرفة وعادات معادية لقيم الهوية الوطنية. ويزداد الأمر خطورة مع سوء استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، خصوصا مع انخراط فئات واسعة من المجتمع -لا سيما فئة الشباب والأحداث- في استهلاك موادها والتفاعل معها وولعهم بها بدون إدراك عواقبها ومخاطرها، وهذا ما ولّد أنواعا جديدة من الجرائم والتهديدات، لا سيما الجريمة الإلكترونية والشحن الطائفي وظاهرة التنمر والتنابز ونشر الأراجيف والإشاعات والمواد الإعلامية المزيفة. وقد كان لذلك الأثر الأخطر على الأمن المجتمعي للشعوب، خاصة تلك التي تعاني ضعفا في مستوى الوعي الرقمي، وإستراتيجيات حروب الجيل الخامس (الحرب الناعمة)، مما ينذر بتفكك أواصرها الاجتماعية، وتهشيم بنيتها الثقافية، وانخرام لحمتها الوطنية، وتلكم هي أخطر مهددات الأمن القومي.

تستهدف حروب الجيل الخامس المنظومة الفكرية والثقافية للأفراد والمجتمعات، بأدوات ناعمة ولكنها أشد ضراوة وفتكا، إذ تعمل على اختراق الكيان المجتمعي من داخله عبر إعادة تشكيل نفسية الأفراد والشعوب وتنميط أفكارها وسلوكها، باستخدام تقنيات اتصالية فائقة التأثير، بهدف غسل الأدمغة والغرس الثقافي والنمذجة السلوكية.

كما تمثل وسائل الإعلام والاتصال والفن والسينما والرياضة؛ أدوات هذا النوع من الحروب، وتكون مادتها الأساسية هي: الاختلاف الفكري والإثنيات والطوائف والتنوع اللغوي والعرقي والأيديولوجيات والأخلاق والتنوعات الثقافية، بهدف تأجيج النعرات وإيغار الصدور وبث الشحناء وصولا إلى إيقاد نار الفتن وتقسيم الأوطان والمجتمعات، أو نشر الانحلال الأخلاقي وغرس ثقافات مناوئة للقيم المحلية تمهيدا لإخضاع الأجيال القادمة لرؤى القوى الإمبريالية، وصولا إلى توظيف الضحايا في أجندات مدروسة بإحكام لتخريب أوطانهم وخدمة مخططات أعدائهم.

وقد وصف أحد الصحفيين في مقدمة برنامجه "الحرب الناعمة وطرائق الغزو الجديدة" تأثيرات الحرب الناعمة خصوصا على العالم الثالث، فذكر أنها تؤدي إلى "تهشيم الهوية الوطنية، وتفكيك البنية الفكرية والثقافية، والتشكيك في قدرة المجتمعات على النهوض، وتركيعها في خانة المغلوب دوما ليكون هذا المغلوب في خدمة الغالب وفي كل الاتجاهات".

وقوام الحرب الناعمة الاستغناء عن الدبابة بالإعلام، والجيوش بالعملاء، والاحتلال المادي بالاحتلال الفكري، واحتلال الأبدان باحتلال النفوس والأرواح والعقول، وتكريس هزيمة الفرد والمجموع في أي مكان بدون حاجة لاستخدام القوة العسكرية. وعندها يستهل استعباد هذه الأمة أو تلك.

وتتطلب الحرب الناعمة تأسيس غرفة تفكير إستراتيجية ذكية يسودها العقل الجمعي، واستخدام قنوات الإعلام العربي المتأمرك أو الإعلام الغربي المعرّب، وكذلك وسائل الاتصال، من فيسبوك، و"إكس" (تويتر سابقا)، وانستغرام.. إلخ. والهدف هو العقل العربي المسلم لتهميشه.

وتتوصل الحرب الناعمة لتحقيق ما تصبو إليه؛ بقوة الأفكار والأدب والمسرح والفن والإعلانات والمواقع الإلكترونية والبرامج الفنية سواء باللغة الغربية أو باللغة العربية التي تنتصر لمفهوم غربي تغريبي.

إن العالم العربي الإسلامي كان على مدار العقود الأخيرة ساحة مفتوحة لعمليات تفكيكية في غاية الدقة والإحكام، نتجت عنها تهديدات طالت النظام الفكري والقيمي للمجتمعات، لكن قبل الحديث عن أي عامل خارجي فإن السبب الأساس لهذا الوضع المزري، يرجع إلى الهشاشة الفكرية التي تعانيها مجتمعاتنا، وانخفاض في مستوى المقروئية والتعلم والبحث العلمي، واستحكام النظم الاستبدادية المنغلقة، مما جعل عناصر هويتها على محك العولمة والتثاقف، وما يترتب عن ذلك من مظاهر الاغتراب الهوياتي والاستيلاب والاختراق الثقافي والجمود الفكري، حيث انعكست هذه التهديدات في صورة العديد من الفتن المتجانسة، وتعدى خطرها إلى اختراق الأمن المجتمعي والفكري والسياسي للمجتمعات لا سيما الإثنية منها، التي ترزح تحت وطأة التطرف الديني والإرهاب، والصراع بين الثنائيات اللغوية والعرقية، والتعصب المذهبي والتجاذبات الأيديولوجية الحادة.

فالطبيعة التهديدية للحروب الناعمة ولدت حاجة ماسة لاختصاصات أمنية جديدة، تتجاوز مفهوم الأمن بمقارباته التقليدية أو بمفهومه السياسي والجغرافي (أمن الحدود)، فأضحى الأمن الثقافي والفكري والإعلامي والسيبراني والديني، يحظى بنصيب بالغ من اهتمام دوائر هندسة السياسات الأمنية، باعتبار أن هدفها المركزي يتمحور حول صيانة فكر الأفراد ومعتقداتهم من خطر الاختراق والاحتراق.

إن تحقيق الأمن الفكري مرهون بامتلاك الأفراد "للمناعة الذاتية والجماعية" القائمة على الوعي والإرادة اللازمتين لمواجهة مخاطر الحرب الناعمة، والمحافظة على التميز والاستقلالية، ولا سبيل لذلك إلا بتنمية رأس المال البشري عبر تطوير مناهج التعليم وترقية أداء مراكز البحث العلمي، والاستثمار في جميع الوظائف التي تتمحور حول بناء الإنسان فكرا وسلوكا وأخلاقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.