شعار قسم مدونات

رسالة إلى المستقبل السعيد من ماض يتعثر

التاريخ الإسلامي - تراث - التجارة في الحضارة الإسلامية - Gorskii_03948u.jpg (3212x2906) - commons.wikimedia.org
حركة التجايل الحضاري هي تفاعل كل جيل مع من قبله وبعده في المسيرة الحضارية للأمة (مواقع التواصل الاجتماعي)

أكتب اليوم بقلم اليقين المملوء من دواة البصيرة السنينية على أوراق الأمل المصنوعة من أشجار الألم.. أراكم ولا أراكم، وأخاطبكم خطاب المحب المشتاق لأبث إليكم بعض حكاية أمة كنت أنتمي إليها في لحظة مفصلية وهي تصارع لتنتقل من حال سوف أقصها عليكم إلى حال أفضل.

أحسب أنكم تخطيتم الآن إلى المستقبل السعيد، الذي خرجت فيه أمتنا من التخلف، وتعيشون من الفاعلية والإنتاج الحضاري والشهود العمراني، ما يؤهلكم لتلقي هذه الرسالة بلقب مفتوح. فإن كنتم على غير المأمول فاحفظوا عنى خطابي هذا، لمن يأتي بعدكم كما فعل من قبلكم وأعملوا المسير ولا تتوقفوا.

الفاعلية الحضارية روح الحضارة، متى خفتت خفت معها نبض الحضارة وانتقلت إلى خريفها (كما أشار إلى هذه الدورة من قبل إن خلدون وشبنجلر ومالك بن نبي من أسماء مشهورة وغيرهم)

أبدأ حكايتي ببيان المعاناة والمخاض اللذين خاضتهما الأجيال قبلكم، فقد كانت في حيرة من أمرها تتلمس فهم واقعها، كان ثمة اتفاق أننا نعيش تخلفا حضاريا، كان ذلك ظاهرًا عيانًا بيانًا للجميع، ولكن الخلاف كان مريرا عن الوعي بأسباب هذا التخلف. استغرقت الاجابة ما يقارب القرنين من الزمان، وقد تراوحت بين من يطلب علاجًا من ماض تليد، ومن يروم استنساخًا من حاضر غريب، إضافة إلى من يسعى ليزاوج بينهما، فضيع كليهما.

يمكن تشخيص أزمة السعي إلى الاصلاح في هذا السياق بأن مرجعها يعود إلى غياب الرؤية والمنهجية، إضافة إلى شدة القوى المعطلة لأي حراك تجديدي، سواء من الداخل المتحارب المتشرذم، أو من الخارج الساعي للإبقاء على حالة التبعية والاستهلاك اللتين أحاطتا بالأمة قرنين فوق القرنين السالفين.

ليس الغرض من هذه الرسالة التفصيل في هذا العناء والكد في رحلة الوعي والسعي الحضاري، فإنكم ستجدونه مفصلا في كتب التاريخ ومباحث العلوم والدراسات الحضارية.

إنما أروم بهذه الرسالة أن أشارككم 3 خواطر كأحد الذين استحوذ عليهم همّ الوعي بالتغيير، وانخرط في السعي للتجديد، وكفرد أعمل فكره وأجهد نفسه في أحد المراحل الحالكة من هذا المخاض.

لعل هذه الخواطر والنفثات تكفيكم أخطاء سابقيكم أو تلخص دروسا حضارية، قد يكون ثمن الجهل بها باهظًا أو حتى يكلفكم ما أنتم عليه من فاعلية ونهوض حضاري.

  • تذكروا أنه لا زال التاريخ (وأنا جزء منه الآن) شاهدًا على أن العلو الحضاري أمضى في تأثيره من العلو المادي العسكري، فالخروج من نير الاستعمار الغربي في بلادنا، على شدته، كان أقل معاناة ومقاساة من نير استلابه الحضاري لنا. وكما تعلمون فإن فارق القوى المادية يعطي صاحبه صولة واحدة في ميدان الأرض، بينما الفارق الحضاري يعطي الأمة المنتجة لهذه الحضارة نفوذا وهيمنة، بل صولات على عقول ووجدان الشعوب المستهلكة التي لا تفكر ولا تنتج.
  • أحدثكم عن هذا، وأنا ناقل عن آبائي ما عانوه من أجل التحرر من الاستعمار الخشن، في الوقت الذي أنا وجيلي قاسينا من فترة ما بعد الاستعمار، من تحكم ناعم في مسيرة المجتمع، وتلوين خفي لقيمه وخياراته، وسقوط في فخ التقليد نتيجة لهذا الفارق في التقدم، وهو الأمر الذي غبّش رؤية العديدين إما انبهارًا وإما استسلامًا ويأسًا.
  • وفي التاريخ نذكر أن أمتنا رغم الهزيمة العسكرية من المغول، فإنها حافظت على الفارق الحضاري والقيمي بينها وبين تلك القوى المدمرة، فأحاطت الأمة بهم، بما كانت تملكه من وفرة ثقافية وفكرية ومن معاني الاستئمان (حمل الأمانة) والاستخلاف الكوني الذي خصنا به الخالق، فاستسلم التتار للأمة المغلوبة، لأنها كانت الأقوى حضاريا.

احذروا الحواجز الحضارية، وهي حواجز إما أنها تعيق المسير إلى الأمام أو تحيد بهذا المسير لغير الوجهة

  • أحبابي، لعلكم أعلم مني بهذه الوصية، ولكني أذكركم أن الفاعلية الحضارية هي روح الحضارة، متى خفتت خفت معها نبض الحضارة وانتقلت إلى خريفها (كما أشار إلى هذه الدورة من قبل ابن خلدون وشبنجلر ومالك بن نبي من أسماء مشهورة وغيرهم)، فحافظوا على هذه الفاعلية من خلال الإبقاء على وعي الناس بدورهم الحضاري؛ فالفعل الحضاري إن بقي أو عاد نخبويًا ضعفت الفاعلية الحضارية. احرصوا أن تكون حضارتكم حضارة الجموع الواعية الساعية في مفيض حضاري ينبع من بؤر النخب الفكرية التي تعمل على تركيب الرؤى والأطر الفكرية والقيمية لهذه الحضارة، إلى أن يأتي دور يربط فيه أفرادٌ قادرون أفكار هذه النخب بفعل الجموع.
  • هذه الثلاثية: نخب ورجال معابر وجموع منتجة هي روزنامة الفاعلية الحضارية فحافظوا عليها وعلى محاضنها.
  • احذروا الحواجز الحضارية وهي حواجز إما تعيق المسير إلى الأمام أو تحيد بهذا المسير لغير الوجهة المأمولة. فمن هذه الحواجز غياب أو عدم وضوح الأرضية القيمية التي يقوم عليها الفعل الحضاري وغياب المنصة الأخلاقية الدافعة والضابطة لهذا الفعل.
  • حاجز آخر متعلق بفقدان القدرة على تعيين المناط الأخلاقي والقيمي لتراثنا وحضارتنا المتعلق بالزمان والمكان وهو ما سيؤدي إلى تكلس وضمور وجود هذه القيم والأخلاق في الواقع سريع التغيير، وبالتالي غيابها وهو ما سيقود إلى الحاجز الأول.
  • حاجز أخير وهو خفوت وضعف الحساسية الاستهلاكية وأعني بها أن تتماهى روح الأمة وتصطلح مع استهلاك منتجات غيرها الحضارية، وهي ليست بالطبع دعوة للعزلة الحضارية أو نسيانًا لحقيقة أن الحضارات تتداول ويبني بعضها على بعض، ولكنها دعوة لتفادي الفتور في الفعل الخلاق الداخلي، لأن الاستهلاك غير المنضبط هو مدخل لتمدد أنساق الآخر في داخلنا، كما يؤدي الاستهلاك غير المنضبط إلى فقدان الكفاءة الإبداعية.

لا أريد أن أطيل عليكم فلسان الماضي وإن بدا حكيما فهو كثيرًا ما يُمل، وكم أود أن أكون معكم لأتعلم منكم كيف أنتم مع واقعكم وما أشكال المنجزات الحضارية التي خرجت من رحم فعلكم الحضاري العمراني الساعي لتخليق هذا الواقع السعيد الذي تعيشون فيه، ولكن لعل أفضل ما أستودعكم به هي تذكرة شفيق بأمانة الاستخلاف التي وصلت إليكم من مخاض من قبلكم وأن تؤسسوا لمن بعدكم بروح وثابة للعطاء الإنساني وقدرة على فهم الزمان والمكان من منظور قيمنا وتجلية ذلك في منتجات علمية وفنية ومؤسسية. إن حركة التجايل الحضاري وهي تفاعل كل جيل مع من قبله وبعده في المسيرة الحضارية للأمة هي دافعي لكتابة هذه الرسالة، وهي عين ما أختم به وصيتي لكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.