شعار قسم مدونات

كيف نهض العلماء لإصلاح العصر المملوكي؟

ابن تيمية
لما نبه ابن السبكي نائب السلطنة إلى الحذر من الدوادار لأن أكثر ما ينشأ فساد بابه عنه ذكر أبرز واجبات الدوادار، وأوجه الفساد التي تصدر عنه (مواقع التواصل الاجتماعي)

تتبع ابن السبكي أبرز مكونات مؤسسة الولاية، فصور الفساد الذي اعتراها، ودعا إلى إصلاحه، فذكَر في رؤيته الإصلاحية نوَّابَ السلطان على الأمصار كالشام وغيرها فقال: "وعليهم مثل ما على السلطان"، ثم زاد عليهم أمورًا ينبغي عليهم القيام بها لتدوم نعمتهم، وتصلح بها حالهم، وحال الدولة من بعدهم، وهي مهمات لا تقل أهمية عن مهام السلطان نفسه ذلك أن نائب السلطنة "هو السلطان الثاني المتصرف المطلق التصرف في كل أمر". كان من أهم المهمات التي نبَّه ابن السبكي نوَّاب السلطان إليها ما يأتي:

مراجعة السلطان إذا ما أمر بمخالفة المصلحة:

كبيع وقف، أو تصرف في أموال اليتامى ونحوه، وأن يتفقدوا حال الرعية، وينظروا في غلات القرى، فيعطوها لمستحقيها، ويولُّوا في المناصب أهلها، بلا بذل رشوة، ولم يكن ابن السبكي بالمتشدد في دعوته نواب السلطنة للعمل بأصل الولاية وواجباتها، وهو يرى الفساد الذي عمَّ عموم رجال الدولة، بل إنه ترخص معهم، وطالبهم بإصلاح ما يستطيعونه؛ عملًا منه بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله ﷺ: «وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم»، فقال: "فإن اعتذر نائب السلطان بأن الزمان لا يمكنه، قلنا له ولغيره: أنتم مطالبون من كل ما نأمركم به بما تصل إليه قدرتكم؛ فعليكم الجد والاجتهاد، واللَّه يعين".

حفظ الدين: ولأن نائب السلطان سلطان ثانٍ فعليه أن يعمل على حفظ الدين أيضًا بحسب مكانه وقدرته، وذلك من خلال عدة أمور، أهمها ما يأتي:

إقامة فقيه في كل قرية لا فقيه فيها يعلم الناس أمر دينهم:

وفي هذا المقام عرَّض ابن السبكي بالنواب وغيرهم من الولاة الذين يحرصون على استصحاب طبيب معهم في أسفارهم بمعلوم من بيت المال، ولا يستصحبون معهم فقيهًا يعلمهم الدين؛ فقال: "وما ذاك إلّا لأن أمر أبدانهم أهم عندهم من أمر أديانهم".

تتبع أهل البدع والأهواء ممن يفسدون عقائد المسلمين:

كالرافضة الذين يقعون في الشيخين ويقذفون عائشة رضي الله عنهم، أو ممن ينتقصون جناب النبي ﷺ، أو يسبه، إن على النواب ألا يصبروا على هؤلاء المبتدعين الذين يسبون أصحاب رسول الله ﷺ، بل يجب الغلظة عليهم بما تقتضيه عقيدة المذاهب الأربعة التي عليها جمهور المسلمين.

إلقاء مقاليد الأحكام إلى الشرع:

وكان ابن السبكي قد تولى منصب قاضي قضاة الشافعية؛ فاطلع خلال ذلك على الفساد الذي عمَّ مؤسسة القضاء، ومنه: تصدي الحُجَّاب للحكم في الأمور الشرعية بغير حكم الشرع، وصار من يحكم منهم بالشرع يتهم باللين والرخاوة؛ فنبَّه ابن السبكي نائب السلطان أنه يجب عليه إنكار ذلك على الحجاب الذين تحت يده، وإلقاء الأحكام إلى الشرع "لأنه لا حاكم إلا الله تعالى، ولن تفعل العقول شيئًا"، وكان هذا الأمر قد تفشى بين الحجاب حتى صار يُعاب على من ينكره، ولذا قال ابن السبكي فيمن يعيب على نائب السلطان انقياده للشرع "أنه يُخشى عليه أن يكون ممن طُبع على قلبه، وأن عاقبته وخيمة.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هو الفاسقون الكافرون الظالمون".

النظر في أمر المفسدين:

كان من المهام الموكلة إلى نائب السلطنة حثُّ الولاة خارج القاهرة على ألا يحمل أحد من الأعراب سيفًا، ولا رمحًا، ولا سلاحًا، وأن لا يسمح لأحد منهم بشراء سلاح من القاهرة، ومن يخالف هذه الأمور يؤدب؛ وذلك لما عهد عن أولئك الأعراب من استخدام تلك الأسلحة في أعمال النهب والفساد، وقد كان من الفساد الذي عمَّ المجتمع نتيجة فساد بعض سلاطين آل قلاوون؛ خروج كثير من أعراب الشام ومصر عن طاعتهم، فقام أولئك الأعراب بأعمال النهب والسلب، وقطع الطرقات، وغير ذلك من أعمال الفساد؛ فنبَّه ابن السبكي نائب السلطان إلى وجوب قطع دابرهم بالغلظة، والتشديد عليهم، ولو كان ذلك بتقليد بعض المذاهب في شدة تعزيرهم، والمبالغة في عقوبتهم، أو طول سجنهم؛ "بشرط أن يكون الحامل له على ذلك المصلحة، لا التشهّي وحظ النفس، ومحبَّة شِيَاع الاسم بالانتقام؛ فإن ذلك فَنٌّ من الجنون".

وكان الأولى بابن السبكي في هذا المقام أن يدعو أولئك السلاطين ونوابهم -الذين اشتكى من فسادهم وإفسادهم- للنظر في مظالم أولئك القوم أهل البوادي من الأعراب ونحوهم ما لهم وما عليهم؛ قبل أن يوجد للسلاطين ونوابهم مخارج فقهية لتشديد العقوبة عليهم، لا سيما وأنه كان يرى التمييز الطبقي في الدولة، وانفراد المماليك بوظائف الدولة وخيراتها، وترك المصريين أهل البلد من الأعراب وغيرهم عالة عليهم؛ الشيء الذي حمل هؤلاء للقيام بثورات على المماليك لاسترداد حكم مصر من أيديهم، وظلت تلك الثورات مستمرة وكانت سببًا من أسباب سقوط الدولة فيما بعد، وشهد عصر ابن السبكي خروج عدد من نواب السلطان لتأديب الأعراب الخارجين عن سلطة الدولة في الصعيد وغيرها، ومارس بعضهم خلال ذلك أعمال القتل والحرق والتوسيط، وغيرها من العقوبات.

الحذر من الدوادار:

وهو لقب من يحمل دواة السلطان، أو الأمير، أو غيرهما، ويتولّى أمرها مع ما ينضمّ إلى ذلك من الأمور اللازمة لهذا المعنى من حكم، وتنفيذ أمور، وغير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال، وقد بلغ رصد ابن السبكي لفساد مؤسسة الولاية الغاية في الدقة؛ فأدرك أن باب فساد نواب السلطنة إنما هو الدوادار فنبههم لذلك، وأوجب عليهم الحذر منه قائلًا: "فأكثر ما ينشأ فساد بابهم عنهم وهم غافلون، فإذا عرف نائب السلطنة أن ميزان بابه الدوادار فحقَّ عليه الاحتياط في أمره، وعدم الإِصغاء إليه فيما يقوله، بل يستوضح الحال، ويستكشفه من بطانة الخير عنده"، وإنما صار الدوادار منشأ الفساد نظرًا لكثرة الصلاحيات المعطاة له، لا سيما إن تولى المنصب مرة ثانية فعندها تزداد صلاحياته، ويقوى سلطانه، ويعظم فساده.

وفي تحذير ابن السبكي نائب السلطان من الدوادار تذكير بقول النبي ﷺ: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم اللهُ تعالى».

ولـمَّا نبَّه ابن السبكي نائب السلطنة إلى الحذر من الدوادار لأن أكثر ما ينشأ فساد بابه عنه؛ ذكر أبرز واجبات الدوادار، وأوجه الفساد التي تصدر عنه، ودعاه إلى إصلاحها، ومن أهم ما ذكره: أنه يجب عليه أن يستأذن لذوي الحاجة، وينهي ظلامتهم، ويدخلهم على السلطان، ولا يتركهم ببابه؛ لأن لهم حقًا عند أستاذه السلطان، ومن وظيفة أستاذه قضاء حوائجهم، والمنة لله على أستاذه أن جعل حاجة الناس إليه، والمنة عليه أن جعله بباب أستاذه لهذا الأمر؛ فإن قصَّر الدوادار في شيء من ذلك "كان هو الظالمَ لأستاذه، المتسبّبَ في خراب دياره، الباغيَ على الرعِيَّة".

وقد نقل لنا المؤرخون تعرض كثير من الدوادارية لأنواع العقوبات، كالسجن، أو القتل، أو التوسيط، أو النفي؛ وذلك بعد أن استغلوا مناصبهم، ومارسوا صلاحياتهم في غير وجه حق، فوقعوا في الفساد، كأخذ الرشوة، وارتكاب المحرمات.

إلى غير ذلك من أفراد مؤسسة الولاية الذين كانوا من أسباب فسادها، كالموقعين، وكاتب السر وغيرهم، الشيء الذي حمل ابن السبكي إلى تقديم رؤية لإصلاح ذلك الفساد في تلك المؤسسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.