شعار قسم مدونات

الطب الاجتماعي.. رؤية ثورية إصلاحية

بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، بلغت نسبة الموافقة لمرضى السرطان في غزة للخروج من القطاع 65% فقط (رويترز)

الطب الاجتماعي هو تخصص يدرس العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تؤثر على الإصابة بالأمراض، وهو يعنى بتعزيز أدوات الطب الوقائي والصحة العامة.

أود التنويه ابتداء إلى الخلط بين مفهوم المحددات الاجتماعية للصحة والطب الاجتماعي، فهما يشتركان في توظيف الظروف الاجتماعية والعوامل غير الإكلينيكية في تحسين العملية العلاجية والتوعوية للناس (لم أستخدم لفظ المرضى لأن الأصحاء أيضا يحتاجون للخدمات الصحية والوقائية مثل التطعيمات ورعاية النساء الحوامل كمثال غير حصري) وأما الاختلاف فهو بالمنهج أو النظام حيث أن البعض يعتبر استخدام هذه المحددات هي فقط لأغراض البحث العلمي والتحليل الوبائي، والآخر يرى أنها منهج بحد ذاته وتخصص فرعي من تخصصات الطب بحيث يتحتم على الطبيب مراعاة كافة الجوانب الاجتماعية لمتلقي الخدمات الصحية والعلاجية بالمستوى نفسه الذي يهتم به الأطباء إكلينيكيا وبيولوجيا.

بالمحصلة، يعتبر أي استخدام للظروف الاجتماعية (المأكل والمشرب والدخل الشهري ووفرة المواصلات وشبكات الصرف الصحي وغيرها) سيؤدي إلى تحسين جودة العلاج وجودة القرارات الطبية والصحية لمتلقي الخدمات الصحية.

جذور الطب الاجتماعي تمتد إلى فلسفات الإغريق القدامى في الطب والصحة غير أن المصطلح لم يبدأ بالظهور والتجلي في الأدبيات العالمية إلا في القرن الـ19

أصول الطب الاجتماعي

ظهر مفهوم الطب الاجتماعي لأول مرة عام 1846 من قبل رودولف فيرشو، الذي يعتبر مؤسس الطب الاجتماعي والذي تنبّه إلى ضرورة تفسير العوامل الاجتماعية المرتبطة بالمرض، ومنها اقترح تقديم نموذج رعاية طبية مختلف عن الأنظمة الصحية السابقة التي تنزع إلى التعمق بفهم الظواهر الاجتماعية وربطها بالعملية الاجتماعية.

وبالممارسة العملية والتجارب المعيشة نجد أن جذور الطب الاجتماعي تمتد إلى فلسفات الإغريق القدامى في الطب والصحة غير أن المصطلح لم يبدأ بالظهور والتجلي في الأدبيات العالمية إلا في القرن الـ19. من هنا اهتم الإصلاحيون الاجتماعيون والتنمويون الصحيون في القرن الـ19 بتعزيز الدور السياسي للطب في خلق مجتمعات متساوية والتي من شأنها في المحصلة النهائية خلق العدالة الصحية Health Equity التي هي من أسمى المرامي التنموية لكل الحكومات في العالم أفعالا وتنظيريا، لما لها من دور في استقطاب الشعوب وكسب ميولهم في البرامج الانتخابية حسب النظرة الرأسمالية وتحقيق قيمة العدالة كقيمة سامية حسب النظرة الاشتراكية.

ولعل الانتشار الأوسع لهذا المفهوم وتطبيقاته في أميركا اللاتينية، وتحديدا على يد الطبيب تشيفي جيفارا كان له أوسع الدلالات حول اعتبار هذا التخصص ضمن المسارات التحولية الاجتماعية، ومنها إطلاق اسم الطب الثوري والطبيب الثائر لجيفارا وغيرها من الأسماء التي توحي أن الإصلاح الطبي والصحي يجب أن يراعي الظروف الاجتماعية والسياسية للناس.

الطب الاجتماعي في سياق الاستعمار الاستيطاني

تتعدد العوائق التي تحول دون تقديم الرعاية الصحية بشكل عادل في الكثير من الدول مثل العوائق المالية والإدارية والفنية ومستوى الديمقراطية للأنظمة الحاكمة، ولعل أصعب هذه العوائق هو وجود الاحتلال أو الاستعمار الاستيطاني كما في الحالة الفلسطينية. وهذا يفتح الباب للأسئلة الكثيرة والمتنوعة، وأهمها: ما الممكن فعله في ظل التحديات المزمنة المستمرة وأهمها محدودية المصادر المالية التي تمول النظام الصحي الفلسطيني والعوائق السياسية الناتجة عن الاحتلال الإسرائيلي؟ وهنا لا يخفى علينا واقع الحالة الصحية الفلسطينية عند استعراض واقع الفلسطينيين في الداخل المحتل وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة.

التعبئة المتعلقة بالطب الاجتماعي تساعدنا على اجتراح الأسئلة البحثية بشكل علمي متفاعل ومستجيب لحاجة المجتمع العلمي والمعرفي المعززة للرواية والسردية الفلسطينية محليا ودوليا

التباينات في أعمار الفلسطينيين من وجهة نظر جيوسياسية

تظهر المؤشرات الصحية بشكل جلي تبايناً في معدل التوقع للبقاء على قيد الحياة (life expectancy) للفلسطينيين حسب مكانهم، التي كانت أعلاها لفلسطينيي الداخل المحتل وأقلها لسكان قطاع غزة المحاصر.

إن استعراض هذه المؤشرات في ضوء الممارسات الكولونيالية التي تمارسها السلطات الصهيونية مع ربطها مع المؤشرات الصحية تظهر الفوارق الواضحة بين أعمار الفلسطينيين التي تختلف باختلاف السطلة السياسية التي تحكم الحيز الجغرافي المجزأ في فلسطين. وهنا تتجلى الدعوات التي تحث الباحثين والمؤثرين على إدماج مبادئ وأدبيات حقوق الإنسان كمنظومة للدفاع والمناصرة عن حقوق الفلسطينيين. وعليه لا بد من تعزيز الحالة التعبوية التي تنمي معرفتنا في تكوين فهم أعمق للبعد التاريخي والجغرافي للحالة الفلسطينية التي تتسم بالكثير من التعقيدات المتعلقة بانعدام تحقيق العدالة الصحية.

إن هذه التعبئة المتعلقة بالطب الاجتماعي تساعدنا على اجتراح الأسئلة البحثية بشكل علمي متفاعل ومستجيب لحاجة المجتمع العلمي والمعرفي المعززة للرواية والسردية الفلسطينية محليا ودوليا، والتي من خلالها يمكن استعراض الكثير من الحالات المأساوية الإنسانية، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر حرمان مرضى السرطان الفلسطينيين من العلاج نتيجة عدم الحصول على ما يسمى بالتصاريح التي تمنحها سلطات الاحتلال للمرضى في الضفة الغربية وقطاع غزة للحصول على الخدمات الصحية من مستشفيات القدس أو الضفة الغربية وفي بعض الأحيان خارج فلسطين.

وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، بلغت نسبة الموافقة لمرضى السرطان في غزة للخروج من القطاع 65% فقط، كما بلغت نسبة الموافقة لمرافقي المرضى 46%، في حين بلغت نسبة الأطفال المرضى الذين حصلوا على موافقة للخروج من قطاع غزة للعلاج دون مرافقة والديهم 32%، وبلغ أيضا معدل الانتظار لسيارات الإسعاف للخروج من حاجز بيت حانون "إيرز" 68 دقيقة.

ضرورة بناء إستراتيجية معرفية تستهدف مراجعة الجهاز المعرفي الفلسطيني خصوصا والمناصر للقضية الفلسطينية عموما تعزز من حضور الدبلوماسية الصحية ونظريات علم الاجتماع وأدوات الفعل والتأثير الناعم لتشكيل حالة ضغط تعبوي تحرر الفلسطينيين من الإجراءات العقابية التي تتمثل في الحصار والتضييقات المعيشية

أفكار عملية تعبوية من وحي الطب الاجتماعي

  • إدراج قضايا الاستعمار الاستيطاني (Settler Colonialism) والاقتصاد السياسي (political economy) في المناهج التعليمية الفلسطينية والعربية والدول الحليفة للقضية الفلسطينية على حد سواء.
  • ضرورة اهتمام الباحثين والمختصين في العلوم الصحية الاجتماعية والسياسية بتقديم سردية متواصلة الأركان حول أهم المؤثرات والمحددات الاجتماعية التي تحيط بالنظام الصحي الفلسطيني التي تؤثر على النمو الديموغرافي للفلسطينيين والذي يلقي بظلاله على قدرة الفلسطيني المعاصر على الصمود والمناعة من الاقتلاع والتهجير.
  • ضرورة بناء وتطوير أطر مكيفة محليا ومناسبة دوليا تساعد الباحثين المناصرين للقضية الفلسطينية في إعداد وصياغة الحوارات والمحاججات في المنصات والمنتديات العالمية لتشريح وتوصيف النظام الصحي الفلسطيني بعيدا عن الأدبيات والمراجع التي لا تناسب الواقع الكولونيالي الذي يرزح تحته النظام الصحي الفلسطيني.
  • ضرورة العمل على ردم الفجوة الكبيرة بين ما يطرحه الإعلام المحلي الفلسطيني والعربي وبين ما يحتاجه العقل الغربي من سرديات وأدبيات ومعلومات مبنية على البراهين وليس على استثارة العواطف. لا شك أن الفجوة الإبستمولوجية كبيرة وبحاجة لجهود تعبوية وتنظيمية كبيرة لمناصرة الحق الفلسطيني.
  • ضرورة بناء إستراتيجية معرفية تستهدف مراجعة الجهاز المعرفي الفلسطيني خصوصا والمناصر للقضية الفلسطينية عموما تعزز من حضور الدبلوماسية الصحية ونظريات علم الاجتماع وأدوات الفعل والتأثير الناعم، لتشكيل حالة ضغط تعبوي تحرر الفلسطينيين من الإجراءات العقابية التي تتمثل في الحصار والتضييقات المعيشية إلى الفضاء الأوسع للتمتع بالحق في الوصول للخدمات الصحية بأبسط تعريفاتها.

وهذه الدعوة ليست لتحسين ظروف العيش تحت الاحتلال بل هي دعوة للانعتاق من الاحتلال عبر المنصات الأكاديمية والمنتديات البحثية والصالونات الحوارية المعرفية المتنوعة.

  • وأخيرا لا بد من استمرار البناء المعرفي التعبوي المبني على الحصيلة الإرثية للراحل إدوارد سعيد وغيره من فلسطينيي المهجر أمثال جوزيف مسعد، التي تساعد على بناء رواية متصلة متكاملة تترابط فيها كافة أبعاد المعاناة للفلسطينيين من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، لأنها بالمحصلة تؤثر على قدرة الفلسطيني على البقاء حيا نابضا متمتعا بالمستوى المنشود الذي يعزز من الصمود على الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.