شعار قسم مدونات

العقل الناقد بين معاول التجريم والتحريم

كل الأطفال فلاسفة يتساءلون.. الطريق إلى الفضائل عبر بناء التفكير النقدي
اختلاف المدارك والتجارب الشخصية للأفراد يجعلهم مختلفين في زوايا النظر إلى الظواهر (غيتي)

النقد عامل مهم لصقل الخبرات وتقويم الأفكار والسياسات، وهو أسلوب صحي لبناء تصورات سليمة حول الأحداث، وتقييم مدى نجاعة الخطط والمشاريع التنموية على المستوى الحكومي؛ لذا تعد المعارضة السياسية في الفكر السياسي الحديث مؤشرا صحيا على فعّالية النظام السياسي وشرعيته، وقدرته على التغيير والتطوير عبر الاستفادة من الأفكار المتنوعة والنقد الذي تقدمه المعارضة.

ثقافة النقد في مجتمعاتنا لا تزال بحاجة إلى المزيد من النضج والاستواء، فالنقد بالنسبة لكثير من الأفراد -وحتى النخب والحكام عندنا- رديف للتحقير والسخرية والطعن

أما على مستوى الأفراد، فالنقد البنَّاء للأفكار والآراء يمثل ثقافة ومسلكا حضاريا، وسبيلا للتعايش والتلاقح الفكري، واصطفاء الجيد من الأفكار، والتخلص من الغث والرديء منها.

يثير مالك بن نبي انتباهنا إلى دور النقد الذاتي في حياة الأفراد والشعوب قائلا "النقد الذاتي عامل تطهير جوهري للنفس والمجتمع من أسباب الضعف والاختلال، يجب أن ينطلق إلى أبعد مدى في حياتنا، وأي تعطيل له يعد خدمة للاستعمار والاستبداد". (الطيب برغوث، الطريق إلى عالم مالك بن نبي الفكري، موقع منتديات الشروق)

غير أن ثقافة النقد في مجتمعاتنا لا تزال بحاجة إلى المزيد من النضج والاستواء، فالنقد بالنسبة لكثير من الأفراد -وحتى النخب والحكام عندنا- رديف للتحقير والسخرية والطعن، أو التآمر ومعاداة الوطن، فكل من ينتقد غيره هو -لزاما- محارب له ويسعى لاستصغاره، غير أن جوهر الحقيقة يؤكد أن النقد في إطاره الإيجابي يستلزم النصح وتبيان الأخطاء الخفية أو العلل والتبعات السلبية التي يمكن أن تترتب على أي قرار سياسي أو فكرة أو توجه اجتماعي واقتصادي؛ فاختلاف المدارك والتجارب الشخصية للأفراد يجعلهم مختلفين في زوايا النظر إلى الظواهر، وعبر تلاقح هذه التجارب يتكون الرأي السديد، وتتحقق الجودة في الفكرة والعمل، وفي الإدارة والسياسة.

ويثير الباحث محمد لعاطف انتباهنا إلى مشكلة غياب الروح النقدية في أغلب المشاريع النهضوية في عالمنا العربي عبر حقبه التاريخية المتباينة، ولا تزال هذه المشكلة متأصلة في أغلب المشاريع التي تسمى "الإصلاحية" عندنا، فيقول: "مختلف المشاريع النهضوية العربية تعاني من غياب ورفض النقد الذاتي الذي يمكّن من معرفة مختلف الأخطاء والثغرات لأجل مراجعتها بين الحين والآخر، مما يساعد على مواصلة المسير في طريق النهضة فوق المسالك السليمة، ومن جهة ثانية يساعد على الاستفادة من نتائج هذه الدراسات النقدية وتوظيفها لاختزال مسافة السير، أو بعبارة أخرى حتى لا تتكرر نفس الأخطاء. ويعود سبب ذلك الرفض إلى: انتشار ثقافة التلقين والتسميع والتقليد، على حساب ثقافة التفقيه والتأصيل والنقد والاجتهاد والإبداع، بحيث صعبت علينا مواكبة مستجدات الحياة المعاصرة، وصرنا نرى مواقف آلية تكاد تخلو من الأصالة والفعالية والمصداقية". (محمد لعاطف، معوقات النهضة وطرق علاجها في فكر مالك بن نبي. ص 47).

رغم أن فعل النقد سبيلٌ للتحسين المستمر وتقويم الأخطاء وتقييم مدى جودة الأفكار والمشاريع التنموية، فإننا لا نزال في مجتمعاتنا ننظر إليه بعين الريبة

كما يُرجع مالك بن نبي سبب غياب آلة النقد الذاتي في نمطية التفكير لدى العقل العربي إلى "فعل النقد في حد ذاته"؛ حيث ينظر إليه بعين الريبة والتجريم؛ "فالنقد لم يدخل بعد في عاداتنا، ولم يستقر في جَوِّنَا العقلي، وإن الكلمة ذاتها لم تبرح أجنبية عن قاموسنا أو أنها تعني شيئا آخر، كأن كلمتي "نقد" و"تشويه" مترادفتان في لغتنا". (محمد لعاطف، معوقات النهضة وطرق علاجها في فكر مالك بن نبي، ص 48)

والملاحظة التي قدمها مالك بن نبي تنبؤ عن خلل كامن في الوعي المجتمعي؛ فرغم أن فعل النقد سبيلٌ للتحسين المستمر وتقويم الأخطاء وتقييم مدى جودة الأفكار والمشاريع التنموية، غير أننا لا نزال في مجتمعاتنا ننظر إليه بعين الريبة، وكثيرا ما يوصف المنتقد بالخيانة والتشويش وصاحب الأجندات السرية، فقط لأنه حاول كشف العيوب واقتراح الأحسن وتقديم البدائل.

ونتج عن غياب ثقافة النقد انتشار منطق التبرير بشكل يدفع في كثير من الأحيان على التقزز والنفور، بسبب مصادمته للعقل والواقع وللمنطق العلمي، فالتبريريون يسعون للدفاع عن الوضع القائم واستبقائه، من خلال الاستناد إلى لفيف من الترهات بغرض تبرير سياسة فاشلة، أو قرار خاطئ من دون التطلع إلى التجديد أو التنقيح أو التقويم، وقد يجنح صاحب العقل التبريري إلى ضروب من التشويه أو العنف لوأد العقل الناقد.

يفضل الكثير تعليق فشلهم وكسلهم وعدم أخذهم بالأسباب الصحيحة على مشجب القدر، من دون تفريق بين القدر الكوني والقدر الشرعي

ونتجت عن غياب ثقافة النقد وشيوع منطق التبرير في مجتمعاتنا علل قاتلة للفكر، ومضادة لمنطق الحضارة والفعالية والجودة، من أبرزها:

  • سيادة المنطق السلطوي والوصاية منذ البدايات الأولى لتربية الطفل في البيت والمدرسة، وصولا إلى أسلوب الحكم والسياسة.
  • انتشار ثقافة التسليم والإذعان للأفكار الشائعة.
  • ربط النقد بسوء القصد؛ ومن ثم تجريم صاحبه، وقد يكون القصد منه خلاف ذلك تماما.
  • ومن الناحية السياسية؛ احتكار السلطة وغياب أي مظهر للتداول عليها مما قد يُعرِّف المواطنين بأفكار وشخصيات جديدة أحسن من سابقتها.
  • تمكُّن أنظمة الحكم الاستبدادية والدكتاتورية القامعة للحريات والرافضة لأي معارضة بناءة.
  • سيادة أسلوب التلقين والحفظ في التعليم والتقويم من دون تنمية مدارك العقل واستفزاز قدراته التحليلية والنقدية والإبداعية.
  • التربية الوالدية القائمة على المفاضلة بين الذكور والإناث والكبار والصغار؛ فالكبير أو الذكر مهما فعل من الأخطاء لا يحق لأحد معارضته أو نقده.
  • شيوع مسلك القدرية في تبرير حالة الفشل والوهن النفسي والعجز الذاتي؛ فيفضل الكثير تعليق فشلهم وكسلهم وعدم أخذهم بالأسباب الصحيحة على مشجب القدر، من دون تفريق بين القدر الكوني والقدر الشرعي، في الوقت الذي يعلمنا فيه القرآن الكريم أن نميز جيدا بين ما أصابنا بمحض تفريطنا: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، وبين ما يصيبنا من صروف القدر بعد أخذ الأسباب وطرق الأبواب ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللهِ يَسِيرٌ﴾. [الحديد: 22]

إن كل هذه العلل قد تكونت في الأمة عبر تجاربها التاريخية وتحولاتها الاجتماعية والسياسية، ونوعية الموروث الثقافي المتراكم عبر الزمن والمتحكم في أنظمة التفكير لديها، إضافة إلى المخلفات الموروثة عن عهود الاحتلال، التي طبعت فيها نزعة "الاتكالية و"القدرية" و"التبريرية" للتهرب من مسؤولية الإصلاح والتغيير، التي حث عليها قول نبينا عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان." رواه مسلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.