شعار قسم مدونات

جهود الفقهاء في إصلاح مؤسسة الحكم.. السبكي نموذجا

midan - المماليك
من أولى مقاصد الولاية عند ابن السبكي وأهمها إقامة فرض الجهاد (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم يرد ابن السبكي من حديثه عن إصلاح مؤسسة الولاية أن يقدم لنا تنظيرًا مجرَّدًا عما ينبغي أن تقوم عليه المؤسسة من حيث ذكر الشروط الواجب توافرها في ولي الأمر، وكيف يتولى منصبه ونحو ذلك؛ فذلك كله مذكور في كتب الفقهاء في باب الإمامة، أو في كتب الأحكام السلطانية كما قال؛ إنما أراد من حديثه عن مؤسسة الولاية وما يتعلق بها أن يصور لنا الداء الذي تفشى في جسدها فأفسدها، ومن ثمَّ يصف الدواء الناجع وصفًا واضحًا؛ ولذا نراه يتناول الحديث عن مؤسسة الولاية تناولًا مغايرًا لما هو مألوف في كتب السياسة الشرعية قبله، فهو يعدُّ الوظيفة والمنصب نعمةً تدوم بالشكر وتزول بالكفر، ومقصوده بالشكر: القيام بواجبات الوظيفة، كلُّ وظيفة بحسبها، وبالكفر: مخالفة مقصودها وترك واجباتها، ولا يصحُّ عنده أن يُجعل شكر نعمة لشكر نعمة غيرها، ذلك أن لكل نعمة شكرًا يخصها ويليق بها.

وقد اختار ابن السبكي للحديث عن إصلاح مؤسسة الولاية السلطان فمن دونه من أبرز التابعين له، وتجاوز الحديث عن الخلافة القائمة في القاهرة لأنه رآها منزوعة الصلاحيات، لا يمكن مع حكم المماليك أن تنهض بدورها بصلاحياتها المذكورة في كتب الأحكام السلطانية. نعرض في هذا المقال لبيان مهمات السلطان وواجباته كما ذكرها ابن السبكي، ونرجئ الحديث عمن دونه من النواب إلى مقالة لاحقة، وذلك كما يأتي:

بدأ ابن السبكي الحديث عن وظيفة السلطان بذكر أهم الواجبات والمهمات التي أهملها الملوك، أو قصّروا فيها حتى وقع الفساد وزالت النعمة، وكان من أبرز تلك المهمات ما يأتي:

ابن السبكي الذي عاش حقبة حكم أبناء قلاوون، ورأى خراب بلاد كثيرة جرَّاء فساد بعضهم، واطلع على الظلم الذي نال الرعية بسببهم؛ نبَّه السلطان إلى مقصد الولاية الأهم، وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله

تجنيد الجند وإقامة فرض الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى

من أولى مقاصد الولاية عند ابن السبكي وأهمها إقامة فرض الجهاد، فابن السبكي الذي عاش حقبة حكم أبناء قلاوون، ورأى خراب بلاد كثيرة جرَّاء فساد بعضهم، واطلع على الظلم الذي نال الرعية بسببهم ومنه فرض الضرائب والمكوس عليهم مما أتعبهم وحملهم على الشكوى من ذلك؛ نبَّه السلطان إلى مقصد الولاية الأهم، وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وأنه يجب عليه إن كان شجاعًا ناهضًا أن يجمع المال حِلاًّ وبِلاًّ من أعداء الله ببث جماعاته في البحر تتلصص أهلَ الحرب من أعداء الله، ويدعَ عنه أذية المسلمين، وأخذ أموالهم ظلمًا.

قال: "فإن اللَّه تعالى لم يولِّه على المسلمين ليكون رئيسًا آكلًا شاربًا مستريحًا، بل لينصر الدين ويُعلِيَ الكلمة"، وقد نبَّه ابن السبكي السلطان إلى تلصص أعداء الله في البحر في هذا المقام بعد أن رأى تعرُّض الشواطئ المصرية والشامية إلى حملات القرصنة المستمرة من قبل نصارى قبرص وغيرهم، كان من أعظم تلك الحملات ضررًا ما تعرضت له الإسكندرية عام 767 هـ من حملة قرصنة قادها ملك قبرص تسببت بخسائر فادحة. قال عنها المقريزي (ت 845 هـ): "فكانت هذه الواقعة من أشنع ما مر بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلت أحوالها، واتضع أهلها، وقلت أموالهم، وزالت نعمهم".

قال ابن السبكي للسلطان: (ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا ليُقال: هذا جامع فلان، فلا واللَّه لن يتقبله اللَّه تعالى أبدًا، وإنَّ اللَّه سبحانه طيّب لا يقبل إِلَّا طيّبًا).

حفظ الدين

الإمامة العظمى هي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا، والأصل في السلطان أنه نائب عن الخليفة في ذلك، ولا بد إذًا من العمل على حفظ الدين، وسياسة الدنيا بالعدل، وتغلبه على السلطة لا يعفيه من شيء من ذلك، ولذا نجد ابن السبكي يدعو السلطان إلى حفظ الدين من خلال ما يأتي:

  • أ- النظر في الصلوات وما يتعلق بها:

مذهب المماليك الفقهي من حيث الأصل المذهب الشافعي امتدادًا لمذهب الأيوبيين قبلهم، وهو لا يجيز إقامة أكثر من جمعة في بلد إلا للضرورة، وقد أكثر السلاطين المماليك من بناء الجوامع حتى كثرت الجمع في البلد كثرة بالغة، وذكر القلقشندي (ت 821 هـ) كثرة عمارة الجوامع في القاهرة فقال: "فعمر بها من الجوامع ما لا يكاد يحصى كثرة"، وقال المقريزي (ت 845 هـ): "وقد بلغت عدّة المساجد التي تقام بها الجمعة مئة وثلاثين مسجدًا"، بل ذكر ابن شاهين (ت 873 هـ) أن "بمصر والقاهرة داخل السور وخارجه ألف خطبة ونيفا"، فنبَّه ابن السبكي السلطانَ إلى مهمَّته للحد من ذلك، لأنه يخالف مقصد الاجتماع الذي أراده الإسلام من إقامة الجمعة، وردَّ على من احتجَّ بإجازة قوم من الفقهاء ذلك فقال: "إذا فعلت ما هو واجبٌ عليك عند الكل فذاك الوقتَ افعل الجائز عند البعض".

وكأن ابن السبكي يريد أن يلج من باب بيان الحكم الفقهي لتعدد الجُمع في البلد الواحد إلى كشف الفساد الذي بنيت به تلك المساجد ونقده، فكثير منها إنما بناها أولئك السلاطين بأموال الرعايا، بعد فرض الضرائب عليهم أو الاستيلاء على أملاكهم؛ فقال ابن السبكي للسلطان: "ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا ليُقال: هذا جامع فلان، فلا واللَّه لن يتقبله اللَّه تعالى أبدًا، وإنَّ اللَّه سبحانه طيّب لا يقبل إِلَّا طيّبًا".

وقد حرَّم عدد من الفقهاء قبل ابن السبكي الصلاة في مارستان المنصور قلاوون (ت 689 هـ) لأنهم رأوا أنه بني بأموال الناس، وأخذت أرضه غصبًا، ولمَّا أُحضر الشيخ محمد المرجاني (ت 699 هـ) وسُئل عن موقفه من الصلاة فيه قال: "أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها، وأقول الآن إنه يكره الدخول من بابها، ونهض قائما فانفض الناس"، ثم بلغ حال الناس بعد ابن السبكي أن رفض بعضهم الصلاة في تلك المساجد، وأطلقوا على المسجد الذي بناه السلطان قانصوه الغوري (ت 922 هـ) بأموال الضرائب الظالمة اسم: المسجد الحرام، وقد قال المقريزي في أولئك السلاطين: "مَن منهم لم يسلك في أعماله هذا السبيل؟ غير أن بعضهم أظلم من بعض".

  • ب- التنبيه إلى أن السجود لا يجوز إلا لله تعالى:

يشير بذلك ابن السبكي إلى البدعة القبيحة التي كانت سائدة عند المماليك من تقبيل الأرض بين يدي السلاطين، وهي تحية الملوك الكسروية كما قال ابن خلدون، فبيّن لهم ابن السبكي حكمَها، وأن في بعض صورها ما يقتضي الكفر أو يقاربه، وقال لمن استدل لجوازها بقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]؛ بأن الآية منسوخة، أو متأوَّلة كما قال العلماء.

دعا ابن السبكي السلطانَ لإصلاح ذلك الحال، ونبَّهه إلى أنه يجب عليه أن ينزل الناس منازلهم، وأن يكفيهم من بيت المال الذي هو أمانة بيده دَلْوُه فيه ودِلاء المسلمين سواء

النظر في مصالح العلماء وفقراء المسلمين

رغم ما كان يتمتع به بعض الفقهاء والقضاء من ثراء عريض في دولة المماليك، فإن فئةً كبيرةً منهم عاشت حالة فقر وعوز شديدة ألجأها للعمل في الحرف الدنيئة لسد متطلبات الحياة، ومن أولئك العماد البلبيسيّ (ت 749 هـ)، الذي "برع في الفقه والأصول وتصدّى للاشتغال؛ فتخرّج به خلق"، بل إن بعضهم كان يعمل بما لا يليق بالقاضي ولا بالفقيه أن يعمل به من المهن والحرف، كبيع الأسقاط ونحوها، كالشيخ علي بن بيان الصالحي (ت 715 هـ)، وقد ذكر عنه البرزالي (ت 739 هـ) في تاريخه أنه: "كان يتعيش بحمل الشواء وبيع الكُبود والغدد"، وما ألجأهم لذلك إلا سوء أوضاعهم المعيشية، وقد شبَّه المقريزي (ت 845 هـ) تلك الفئة من المجتمع "بأنهم بين ميِّت، أو مشتهي الموت؛ لسوء ما حلّ بهم".

وقد رصد ابن السبكي ذلك بعد أن رأى النفقات الكبيرة التي كان يبذلها بعض السلاطين على لباسهم وزينتهم، أو على لباس حاشيتهم، أو على المغاني والمجون ونحوه، بينما أولئك الفقهاء وغيرهم من فقراء المسلمين يبيتون ومنهم من يطوي الليلة والليلتين هو وعياله؛ فدعا ابن السبكي السلطانَ لإصلاح ذلك الحال، ونبَّهه إلى أنه يجب عليه أن ينزل الناس منازلهم، وأن يكفيهم من بيت المال الذي هو أمانة بيده دَلْوُه فيه ودِلاء المسلمين سواء، وحذَّره من الاستيلاء على أوقاف أولئك الفقهاء أو بيعها بالبرطيل، كما كان يفعل بعضهم؛ بل لقد أشار على السلطان أن يزيد العلماء من بيت المال ما تتم به كفايتهم.

النظر في الإقطاعات

وقد انتشرت الإقطاعات في دولة المماليك عمومًا حتى أطلق عليها: دولة الإقطاعات، ولكن الإقطاع انتشر إبان حكم آل قلاوون خصوصًا انتشارًا كبيرًا، وقد كان كل سلطان منهم يقطع الإقطاعات الكثيرة لأمراء الجيش وللمماليك الذين كان يتخذهم عصبة يقوي بهم حكمه، وحصل في عهد ابن السبكي عام 744 هـ نوع من التسلط القسري استولى خلاله عدد من الأمراء والأجناد على إقطاعات عديدة من دون وجه حق، وذلك بعد وفاة الناصر محمد بن قلاوون (ت 741 هـ)، الذي كان يوزّع الإقطاعات بدافع الحرص على كفاءة من يحوزها، سواء من الناحية الأخلاقية أم الإدارية أم العسكرية، ثم بلغ من فساد بعض أبنائه السلاطين بعده أن الإقطاعات أصبحت تقضى في عهدهم بالخدام والنساء، وقد كان ابن السبكي مطلعًا على ذلك؛ فدعا السلطان لإصلاح ذلك الحال، وأنه يجب عليه أن يضع تلك الإقطاعات موضعها بما ينفع المسلمين ويحقق مصالحهم، ويحمي حوزة الدين، ويكف أيدي المعتدين عليها، ورأى -رحمه الله- أن سكوت السلطان على ذلك من أسباب زوال نعمة الله عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.