شعار قسم مدونات

بيت لا تسنده مكتبة آيل للسقوط

غلاف كتاب مكتباتهم
غلاف كتاب "مكتباتهم" (الجزيرة)

صدر عن دار توبقال سنة 2016 كتاب فريد في مضمونه وبابه وطريقة صياغة فصوله للكاتب والمترجم المغربي آيت حنا محمد ابن منطقة الأطلس وأستاذ الفلسفة في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء، والذي بدأ مشواره مع الكتابة سنة 2010 ومع الترجمة سنة 2011، فأنتج أعمالا متميزة غطت حقولا فلسفية وأدبية وجمالية، وطبع له لحدود سنة 2021 حوالي 9 كتب.

لكن الكتاب الذي نستحضره في هذا المقال قد نحا فيه الكاتب منحى طريفا وعجيبا، فأنتج لنا نصا مشوقا عن أعظم ما أنتج البشر، إنها الكتب التي خلدت تراث الأقدمين وساهمت في تطور الفكر الإنساني، واتخذ له عنوان "مكتباتهم".

مدار هذا الكتاب عن الكتب والمكتبات في تجارب كثير من الأمم والحضارات، في تراث الماضين وراهن المعاصرين، الكتب التي اعتبرها الشاعر أبو الطيب المتنبي (خير جليس في الزمان)

هوس جمع الكتب وحدس التعبير الأريب

يعترف الكاتب بأن أصوله الاجتماعية لم تربطه بالكتب، ولا خلّف له والداه ثروة علمية ولا مكتبة، فمال إلى العلم وشغف بالكتب وجمعها تحت نداء الفطرة وحب الكلمة المكتوبة، فألفى نفسه منذ صباه مهووسا بجمع الكتب استعارة واقتناء حتى تجمّع لديه ما حقق حلمه، تأسيس مكتبة.

لا يكاد القارئ يفصل في الكتاب من أول أبوابه بين السحري والحقيقي في تعبيرات الكاتب وسردياته، ربما لاعتماد الكاتب كثيرا على فن الأدب والكتابة الروائية، لذا وصف الروائي أحمد بوزفور هذا العمل بأنه "غريب وسحري يتجدد كل صباح"، وخلص إلى أنه لم يعرف "يقينا أشبه بالشك، ولا شكا أشبه باليقين من هذا الكتاب".

ولا عجب، فمدار هذا الكتاب عن الكتب والمكتبات في تجارب كثير من الأمم والحضارات، في تراث الماضين وراهن المعاصرين، الكتب التي اعتبرها الشاعر أبو الطيب المتنبي "خير جليس في الزمان"، وقال في مدحها ووصف قيمتها وإسهامها في مسار البشرية العلامة والأديب أبو عمرو الجاحظ "الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك (..)، إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وفخّم ألفاظك وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر (..)، [و] يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر".

قاد الولع بالمكتبات والذخائر الباحث آيت حنا إلى تأليف كتابه الطريف "مكتباتهم" بلغة عربية رصينة وأصيلة، تمتح معظم فصوله من معين تراث العربية الزاخر، وتطوع بعضها اللغة العربية المعاصرة فتقدمها في قالب سلس مرن يجعلك متعلقا بالكتاب وموضوعاته مستمتعا به.

موضوعات الكتاب تدور حول القراءة والكتب والمكتبات، حقيقة وتخيلا، ماضيا واستشرافا، ترصد خبرات متعددة في هذا المجال، وتكشف عن طبائع علائق الكاتب آيت حنا بكل من قرأ لهم

إطلالة على بنية الكتاب وموضوعاته

خصص الكاتب المبحث الأول لسرد رحلة تعلقه بالمكتبات وهيامه في الكتب جمعا ثم شراء فاطلاعا تحت عنوان "مكتبة القيم على المكتبة"، متبوعا بعنوان فرعي يبين فيه عن أصوله الاجتماعية والثقافية عنونه بـ"الفلاحون لا يضعون الكتب في المكتبات"، ليتلو ذلك بمبحث ثان تضمن 31 موضوعا/ فصلا، بإمكان القارئ الشروع في قراءة الكتاب من أي فصل شاء، فليس ثمة منهجية تحكم الكتاب، فكل الفصول تدور في مضمار التعريف بمكتبات مشاهير العلماء والأدباء والنبغاء عبر العالم، ترتيبها لا يخضع لمنطق تاريخي أو زمني أو سياسي أو حتى أدبي، فنجده يكتب عن مكتبة الطبيب ابن سينا ليتبعها بمكتبة الشاعر السويدي ترانسترومر على سبيل المثال.

موضوعات الكتاب تدور حول القراءة والكتب والمكتبات، حقيقة وتخيلا، ماضيا واستشرافا، ترصد خبرات متعددة في هذا المجال، وتكشف عن طبائع علائق الكاتب آيت حنا بكل من قرأ لهم، فنجد الفصول تأخذ أسماء مكتبات أعلام، من قبيل: مكتبة أفلاطون، مكتبة فالتر بنيامين، مكتبة أمبرتو إيكو، مكتبة أبو العبر، مكتبة شوبنهاور، مكتبة التوحيدي، مكتبة سارتر، مكتبة الجاحظ، مكتبة أورهان باموك، مكتبة بنعبد العالي.

والناظر في هذه العناوين يجدها تقوم على ثقافة الاعتراف بجهود هؤلاء الطليعة من المثقفين والأدباء والعلماء في كلتا الحضارتين الأجنبية، والعربية الإسلامية، من خلال إعادة التعريف بمنجزهم العلمي وبما حوته مكتباتهم، وسَوْق أهم مقولاتهم وحكمهم، وتقريب انشغالهم بفن المكتبات إلى عموم القراء والشباب لعلهم يتأسون بهم من خلال القراءة التي هي "فعل استدعاء الأسلاف، صعود إلى التاريخ الشخصي، من يقرأ يعيد طريقين صوب أسلافه: طريق قصير واضح المعالم بدرجة أو بأخرى، وهو طريق مكتبته القرائية الشخصية (..)، أما الطريق الآخر فهو الذي يرصف من جماع لبنات كل كتب العالم، وهو الطريق الذي يمكننا لحظة قراءة كتاب واحد من استعادة جميع ما كتب وكل ما قيل من كتب وكلمات عبر تاريخنا البشري المشترك".

يقربنا الكاتب إليه -أيضا- كقارئ نهم ومنفتح ومتعدد المشارب وولوع بالترجمة، فمهنة "القارئ أصعب وأشق وأخطر من مهنة الكاتب، وضرورة الحاجة إلى القراء تفوق الحاجة إلى الكتاب، لهذا كلما تضاءل عدد القراء سيسارع الكتّاب إلى ابتداع طرق أعقد فأعقد لاستجلاب القراء"، حسب تعبيره.

يستحضر الكاتب عبارة الروائي لويس بورخيس (توفي عام 1986) التي أوجز فيها أصدق مشاعره تجاه المكتبة قائلا "تخيلت الفردوس على شكل مكتبة" كأنه يتبناها

فن المكتبات.. "فراديس" الدنيا

إن كتاب "مكتباتهم" أوتي قبضة من إرث ما سبق، وبني بإبداع طبقا عن طبق بأفخم العبارات في أوجز الإشارات، جامعا بين التخيل الأدبي والتوقع المستقبلي لحالة المكتبات، كيف كانت وإلى أي مصير صارت؟ قيمتها، أهميتها، تفاصيلها، الثغرات بين الكتب التي هي "عورة المكتبة"، إظهار المكتبات في ركن من أركان المنازل أو إخفاؤها، حالة النفس أثناء جمع الكتب وتمزقها بين جشع الوفرة وخوف الندرة، واعتبر أن "الوفرة أخطر من الندرة، فقانون الندرة يحفز حواسك القرائية كلها، فيما تلقي بك الندرة تدريجيا في مهاوي الخمول".

باطلاعه على مكتبات أولئك الرواد -الموتى الذين لا يستريحون أبدا- يرى المؤلف المكتبات "هي العالم الذي تتجلى فيه دواخلنا، وإن لم يكن لدينا من سبيل لكنس جزء من تفاهات هذه الدواخل يمكن ببساطة أن نصرف جهدنا إلى إعادة ترتيب المكتبة"، ويستحضر الكاتب عبارة الروائي لويس بورخيس (توفي عام 1986) التي أوجز فيها أصدق مشاعره تجاه المكتبة قائلا "تخيلت الفردوس على شكل مكتبة" كأنه يتبناها.

يؤرخ آيت حنا للمكتبات في اتجاه يعاكس أطروحة الدكتورة ربيكا روث حين أرخت لفاجعة تدمير المكتبات وإبادة الكتب برعاية الأنظمة السياسية خلال القرن العشرين، من أوروبا إلى الصين مرورا بالعراق، وأوردت تفاصيل مرعبة عن "آليات التدمير المنهجي للكتب والمكتبات (..) التدمير المادي لمحتوياتها، أو تفكيكها وتبديد محتوياتها عن طريق النهب، أو تطهير محتوياتها على نطاق واسع (..) وتقليص قدرتها على الاضطلاع بوظائفها الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية".

نصوص هذا الكتاب الماتع لم تنحصر في فتح نوافذ الإطلال على مكتبات الأشخاص وحسب، بل وضعتنا أمام نصوص أدبية رفيعة قام المؤلف بتوصيلها وتأصيلها بلغة الضاد لتقريبها إلينا

فالاتجاه الذي اختاره آيت حنا في كتابه ينحو منحى التأريخ لفن عيش المكتبات على أيدي محبيها وجامعيها ومؤسسيها، باعتبارها حصون الثقافة والهوية لأي أمة، فمن خلال تجارب الأديب لاديسلاف مناتشكو والكاتب محمد بوزفور والدكتور عبد الفتاح كليطو والفيلسوف جاك دريدا وغيرهم يستجلي الكاتب طرائق التعامل مع الكتب والمكتبات، يتحسس العلائق النفسية للكتاب مع مكتباتهم وتأثيرها النفسي علينا كقراء، يغوص في "رسم الطرق السرية للحدائق المتشعبة الداخلية للمكتبة"، ويرصد أثر الفراغ في المكتبات، وطرق ترتيبها، والتعامل مع الكتب السيئة، وفنون تدبير الزمن للكتابة والقراءة والتعامل مع المكتبة الخاصة، وانفتاح القراء على مجمل الإرث المكتوب باللغات الحية باعتبارهم هم "روح المكتبة، هم من يحولها من مقبرة إلى كرنفال".

يتحدث المؤلف عن مدى أهمية وجود المكتبات في المنازل -وهي الثقافة الغائبة عن بيوت أغلب الناس في مجتمعاتنا للأسف الشديد، ويعد المنازل التي ليست فيها مكتبات كالمنازل الخربة، فـ"بيت لا تسنده مكتبة آيل للسقوط، المكتبة دعامة البيت"، ومع ذلك لا يفتأ الكاتب يتساءل "ما حاجتنا إلى مكتبات في عالم لن نجد فيه حتى أين نسكن؟ وما حاجتنا إلى كتب في عصر لا قيمة فيه للمكتوب ولمستلزمات صناعته؟

ختاما

إن نصوص هذا الكتاب الماتع لم تنحصر في فتح نوافذ الإطلال على مكتبات الأشخاص وحسب، بل وضعتنا أمام نصوص أدبية رفيعة، قام المؤلف بتوصيلها وتأصيلها بلغة الضاد لتقريبها إلينا، فتارة يقدم قراءة في "فيلم" أميركي أو أوروبي تتمحور فكرته عن الكتابة والكتب في أزمنة التكنولوجيا الحديثة وما بعدها، وتارة يسرح في تخيلات أدبية صوب المستقبل، ترعبنا بشأن مصير المكتبات والكتب، وفي أخرى يحدثنا عن الكتاب الذي شكّل لحظة البداية لدى كاتب عظيم أو مؤرخ كبير فكان بداية وعيه بضرورة تشكيل مكتبته الخاصة التي أضحت في ملك الدولة أو العامة بعد أن أضحى جامعها رميما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.