شعار قسم مدونات

المهام الحضارية لأهل التخوم

نقطة لقوات حماة الثغور متاخمة للحدود وملاصقة للأراضي الزراعية (الجزيرة نت)
من واجبات أهل التخوم قياسًا على المعنى المتسع للمرابطة ألا يكتفوا فقط بالمدافعة السلبية بل عليهم بالمدافعة الإيجابية (الجزيرة)

تحدثنا في المقال السابق عن تعريف أهل التخوم الحضارية، واستلهمنا خصائصهم من وحي تراثنا، وربطناها بالواقع الزماني والمكاني قدر الإمكان. نكمل في هذا المقال متحدثين عن تحدياتهم وأمثلة واقعية لهؤلاء القوم.

في التراث تلمح هذه الروح المرابطة في أحد ميادين التخوم الحضارية في ربيع الدول الإسلامية الفتية إبان ازدهار حركة الترجمة في بيت الحكمة وفي الأندلس وغيرهما

واجبات وتحديات أهل التخوم

إن حالة التربص والحراسة الحضارية التي يعيشها أهل التخوم تجعل من أوجب واجباتهم أن يمتلكوا القدرة على فهم وفك النموذج الحضاري الساعي لمداهمتهم كونهم خط المدافعة والتفاعل الأول، فإن نجحوا في هذه العملية واستوعبوا (دون استلاب) منتجات الحضارة المتاخمة فغيروها أو حسنوها أو أضافوا وبنوا عليها، أو غير ذلك من آليات الفعل الحضاري، كان ذلك دافعًا لمن خلفهم أن يحذوا حذوهم تمامًا كأهل الثغور الذين يدفعون الصولة الأولى للمغير حتى يتهيأ ويتعبأ من خلفهم، لذا حرص المستعمر دائمًا على صبغ نخب عديدة في البلاد التي خربها بصبغته الحضارية ليفت في عضد عموم الأمة كون هذه النخب هي من كانت تصدرها الأمة كتخوم مدافعة أمام سيل المنتجات الحضارية الوافدة.

في التراث تلمح هذه الروح المرابطة في أحد ميادين التخوم الحضارية في ربيع الدول الإسلامية الفتية إبان ازدهار حركة الترجمة في بيت الحكمة وفي الأندلس وغيرهما حين كان يحرص العلماء (وهم يترجمون بصدق وأمانة ودون وصاية منتجات حضارة الإغريق وفارس وغيرها) على نقد هذه المنتجات خاصة في محتواها اللاهوتي والأخلاقي استشعارًا منهم أنهم خط الدفاع الأول لمن خلفهم، فلما تلقفت الأمة هذه المنتجات كانت بصمة أهل التخوم (الفكرية في هذه الحالة) واضحة جلية توقظ عقول الناس وتفتح عيونهم على حقيقة النموذج الحضاري الوافد إيجابًا وسلبًا، فيتفاعل الناس تبعًا لذلك.

ولعل أيضًا من واجبات أهل التخوم قياسًا على المعنى المتسع للمرابطة ألا يكتفوا فقط بالمدافعة السلبية، بل عليهم بالمدافعة الإيجابية، وهي هنا المبادأة بطرح نموذج أو منتج أو فعل حضاري مواجه للحضارة المتاخمة، فينتج عن ذلك حركة نشطة لمقارنة الشقين المختلفين في هذه التخوم تساعد على إنضاج ما هو مطروح وتثبت وتستحث من خلفهم من عموم الأمة ولعلها (كما حدث من قبل) تأسر أهل التخوم المقابلة.

من أبرز مواطن الرباط هي ميادين العلوم حيث الحاجة الملحة لأن يقوم علماء الأمة على خطوط المعرفة الأولى والذين خالطوا وساجلوا معارف حضارة الآخر ورأوا كيف أنها هيمنت وما زالت تهيمن على الأنساق الفكرية لعلماء وطلاب الأمة

نماذج لمدافعات تخومية

إذا أخذنا المعنى الجغرافي للتخوم، فلا شك في أن الجاليات المسلمة في الغرب تجابه عدة ملفات في هذا السجال الحضاري، لعل من أبرزها ملف الأسرة وإعادة محاولة تعريفها سواء من حيث البناء أو الدور أو القيم الحاكمة، إن الأسرة المسلمة في هذا الميدان هي على خط التماس الأول من حيث التربص بزحف هذه الأفكار إلى داخلها ومدى ثباتها، أو من حيث المبادأة بطرح نماذج ناجحة للأسرة المطمئنة والمنتجة للقيم بما يتناسب مع الزمان والمكان. وعلى المنوال نفسه كانت معركة الهوية العامة لهذه الجاليات في تخوم أخرى مثال رباط ناجح بقدر معقول وحراسة محمودة لهذه الثغور، ولعل التاريخ البطولي لصمود العديد من المجتمعات المسلمة في روسيا الحديثة وصمودها أما الروسنة والتي حاولت بكل وسائل الدم والعنف (في العهد القيصري والشيوعي) بسط هيمنة اللغة الروسية وتذويب منابع التراث لهذه المنتجات في هذه التخوم.

أما إذا أخذنا المعنى الميداني والمؤسسي للتخوم، فلعل من أبرز مواطن الرباط هناك هي ميادين العلوم حيث الحاجة الملحة لأن يقوم علماء الأمة على خطوط المعرفة الأولى والذين خالطوا وساجلوا معارف حضارة الآخر ورأوا كيف أنها هيمنت وما زالت تهيمن على الأنساق الفكرية لعلماء وطلاب الأمة، عليهم أن يقوموا بمدافعة ذلك عن طريق العمل على إنتاج خرائط معرفية جديدة بأسس قيمية مخالفة وانطلاقًا من نظرية معرفية تراثية تضيف لمسيرة العلوم الإنسانية والتقنية ولكن بنمط حضاري جديد. وعلى هذا المعنى الميداني أيضًا فإن سيل الفنون الدفاق الذي يروج لنمط حضاري معين استهلاكي فرداني جنساني مادي ليجعله الأصل والمرجع للحياة الناجحة وسمة مجتمعات دولة الرفاه، فإن هذا السيل يستلزم من أهل هذا المجال رباطًا يدفع ببديل يكفي من خلفهم من عموم الأمة تبعات هذه المنتجات وتؤمنهم ببديل يحافظ على أمان هذه الأمة وسلمهم المجتمعي والقيمي وهي كما بيّنا أسس تفضيل أهل الثغور المرابطين… كفاية من خلفهم.

إن حراك أهل التخوم على الوجه الذي بيّناه هو جزء من الكد الحضاري العام المنوط بنا في كل وقت، فللأطراف فعل حضاري يتناسب مع طبيعة التماس مع الآخر زمانًا ومكانا، وللقلب خلفهم فعل آخر وقد أمن بفضل رباط الأطراف فالتفت لما يناسبه من إبداع وإنتاج حضاري

خلاصات ختامية

إن هذا المقال ينطلق من قلب الأمة ليخاطب أطرافها المتماسة مع تخوم حضارية مهيمنة ليستحثها على الاشتباك معها على أرضية المرابطة والحراسة استلهامًا من تراثنا الذي طالما خاطب أطراف الأمة لحماية الثغور حتى يأمن القلب وينطلق في مشروعه العمراني، واليوم فإن هذه التخوم قد يتسع معناها إلى ما دون الجغرافيا ليشمل الميادين الحضارية التفاعلية المختلفة كذلك.

إن هذا المعنى يقتضي كذلك تربية تخومية خاصة تؤهل أهل هذه التخوم إلى هذا النوع من الرباط والمدافعة، وتشمل القدرة على استيعاب النموذج الحضاري وفهمه وتفكيكه وتعيين ميدان البناء عليه أو مدافعته، وهي أمور في مجملها مرتبطة بما يعرف اليوم بالوعي الحضاري.

وتشمل هذه التربية أيضًا إحياء لقيم التراث في قلوب أهل التخوم من معاني الاستئمان العمراني والاستخلاف القيمي والحراسة والمرابطة ضد محاولات الاستلاب الحضاري مستئنسين بما أعده الله لأهل الرباط والمدافعين عن بيضة الدين وأن مقامهم في المواجهة هو باب خير بقدر ما هو تحد صعب.

وفي الختام، فإن حراك أهل التخوم على الوجه الذي بيّناه هو جزء من الكد الحضاري العام المنوط بنا في كل وقت، فللأطراف فعل حضاري يتناسب مع طبيعة التماس مع الآخر زمانًا ومكانًا، وللقلب خلفهم فعل آخر وقد أمن بفضل رباط الأطراف فالتفت لما يناسبه من إبداع وإنتاج حضاري كذلك ولعل محاولتنا استلهام روح ومعان وثواب الرباط والحراسة في تراثنا واتساعها لنستحث (في غير قياس شرعي) هذه الجموع المواجهة للأنساق والأفكار والمنتجات الحضارية الأخرى تؤتي ثمارها فتربط على قلوبهم، وتشرح صدورهم لما أقامهم الله فيه، وكما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي رقم الحديث 1637: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به والممد به"… وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.