شعار قسم مدونات

رؤية منهجية في التفاعل الحضاري (3)

التاريخ الإسلامي- تراث -الوراقون والمكتبات- المصدر ميدجيرني
الإمام أبو الحسن الأشعري واجه الهجوم الفلسفي الكبير على ثوابت الاعتقاد وانفتاحها على منتجات الحضارة اليونانية الفكرية (ميدجيرني)

تحدثنا في المقالين السابقين عن منهجية الاستيعاب والتجاوز كمسار مقترح للتفاعل الحضاري وعن فوائد هذه المنهجية، وفي هذا المقال نشير إلى نماذج لفهم ملامح من منهجية الاستيعاب والتجاوز لنختم حديثنا عن هذا المسار.

نماذج لفهم ملامح من منهجية الاستيعاب والتجاوز الحضارية

نحاول هنا عرض بعض النماذج التاريخية والواقعية التي يمكن من خلالها تلمس بعض ملامح هذه المنهجية المقترحة للتعامل مع الواقع الحضاري للآخر من خلال الاستيعاب والتجاوز، وقبل البسط في هذا لا بد من الإشارة إلى أنه من الخطأ الفادح تصور أن وقائع التاريخ لا بد أن تتطابق مع أي تصور مقترح للتفسير أو التحليل لأن هذه الوقائع وأسباب حدوثها والعوامل المؤثرة فيها من التعقيد بمكان بحيث لا يستطيع نموذج أو رؤية واحدة تفسيرها، وإنما تفيد هذه الوقائع أو الأمثلة في إبراز بعض ملامح النموذج وفهم آلياته وأن محاولة ليّ عنق الأفعال أو الأقوال التاريخية لإبراز مصداقية نموذج أو رؤية هو خطأ فكري يخل بأمانة الطرح ويحيد به عن الحقيقة، وهو ما نحاول تفاديه -إن شاء الله- مع الإقرار بالطبع أن النماذج والمنهجيات في العموم تكتسب قوتها من قدرتها على التفسير والتنبؤ، ولكن بالضابط الذي بيناه. كذلك أحب أن أنبه إلى أن مقصود هذا المقال الوقوف مع مواقف محددة أو أقوال معينة وتناولها بالتحليل، وليس الغرض الوقوف مع مرحلة تاريخية كاملة أو مسار حضاري طويل، لأن هذا خارج نطاق هذا البحث وإن كان مهمًا لإبراز منهجية الاستيعاب والتجاوز على هذا المستوى.

الإمام أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث هجري (265هـ- 324هـ) الذي واجه الهجوم الفلسفي الكبير على ثوابت الاعتقاد وانفتاحها على منتجات الحضارة اليونانية الفكرية فاستوعبها بعمق شديد وفككها وأدرك قيامها على سيادة العقل والنقد المنطقي

لعل الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من أبرز النماذج التي نرى فيها كيف تعمل منهجية الاستيعاب والتجاوز فلقد كانت الدولة الناشئة في عهده بين فكي حضارتين قادرتين على استلاب العقول، إلا أن عمر بن الخطاب -بقدرته على التفريق بين الحق والباطل- كانت له قدرة مميزة على استيعاب منتجات هذه الحضارات والحكم عليها، بل والبناء عليها؛ فعلى سبيل المثال نظر إلى مؤسسات هذه الدول واستفاد منها في إنشاء ديوان الخراج الذي تجاوز به مشكلة الإقطاع المنافي لقيم العدل الإسلامية حين أراد التعامل مع اتساع الرقعة الزراعية في الدولة الإسلامية وكيفية إدارتها. ليس الغرض بالطبع الحديث عن ديوان الخراج تحديدًا، ولكن الإشارة إلى هذه العقلية التي استوعبت منتجا حضاريا للآخر -المتمثل في مفهوم مؤسسات الدولة- ثم تفكيك هذا المنتج ليتجاوز به واقع نشأته عند الآخر إلى واقع الدولة الراهن، ويبني عليه منتجا جديدا يحل به إشكالا ويعكس قيما حضارية أصيلة.

نفس هذه العقلية تتلمسها في شخصٍ آخر من الجيل نفسه، وهو الصحابي ربعي بن عامر في قولته الشهيرة حين سأله قائد الفرس رستم عن سبب خروجه وقومه من صحاريهم إلى ربوع حضارة أخرى،  فقال قولته المشهورة التي تعكس مدى استيعاب هذا الجيل واقع الحضارة المهيمنة المليء بالظلم والشرك وغياب الرؤية الصحيحة للكون "عبادة العباد، جور الأديان، ضيق الدنيا"، ورغبتهم في تفكيكه وتجاوزه إلى واقع حضاري أفضل "عبادة رب العباد، عدل الإسلام، سعة الدنيا والآخرة".

بعد هذا الرعيل الأول وخلال المسيرة الحضارية الإسلامية، تجد عديدا من تجليات هذه العقلية المستوعبة ثم المتجاوزة على أرضية القيم الإسلامية المؤسسة، ومن ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث هجري (265هـ- 324هـ) الذي واجه الهجوم الفلسفي الكبير على ثوابت الاعتقاد وانفتاحها على منتجات الحضارة اليونانية الفكرية فاستوعبها بعمق شديد وفككها وأدرك قيامها على سيادة العقل والنقد المنطقي، فانبرى (هو ومدرسته من بعده) إلى الاستفادة من هذه الركائز، ولكن دون أن يستلبه هذا النموذج، وأسس مسارًا علميًا جديدًا في علم العقيدة (عُرف بعد ذلك بعلم الكلام) يستخدم التأويل العقلي ويقرّ بقوة التأسيس المنطقي وفي الوقت ذاته متجاوزًا لكل آفات هذا الوافد الفلسفي في ما يخص الإلهيات والميتافزيقا ليحافظ على ثوابت التوحيد والتنزيه ومعرفة الإله والنبوات والسمعيات في التراث الإسلامي مع القدرة على مخاطبة ومواجهة خطاب الآخر الحضاري في هذا المضمار من دون أن يهتز.

من أبرز من أشار إلى تميز النسق الحضاري الإسلامي بآلية الاستيعاب والتجاوز هو الدكتور محمد أبو القاسم حاج حمد (1941- 2004)، الذي تحدث عن مشروعه الفكري في كتابه "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة" بأن العالمية الإسلامية الثانية أو البعث الحضاري الجديد لهذه الأمة سيرتكز على استخلاص المنهج المعرفي القرآني من خلال ما سماه الجمع بين القراءتين (قراءة للفعل الغيبي الإلهي وقراءة للفعل الإنساني والطبيعي)

وفي العصر الحديث عديد من الشخصيات التي من الممكن أيضًا أن نرى فيها هذه المنهجية؛ ففي مجال القانون والتشريع مثلًا نجد قامة كالدكتور عبدالرزاق السنهوري (1895-1971)، وهو من أسهم في وضع عديد من دساتير الدول العربية الحديثة، حين أسس لمشروعه العظيم لكتابة القانون المدني للدول العربية، إذ ذكر أن القانون المصري مثلًا (وهو واضعه بعد جهد جهيد لسنوات) يعكس قمة الثقافة الغربية في التشريع ويعد بمثابة مرحلة أولى في اتجاه قانون مدني عربي خالص (وذلك يعكس ملامح استيعاب المنتج الحضاري القانوني للآخر وما فيه من إنجازات مفيدة)، ثم أشار إلى أنه في المرحلة الثانية لا بد أن يستفاد من القانون المدني العراقي لأنه زاوج ما بين القوانين الغربية والشريعة الإسلامية (وذلك بعكس كيف حكم وبنى على ما سبق)، ثم تحدث عن مرحلة ثالثة متجاوزة لا بد أن تقوم على استخلاص قواعد قانونية من الشريعة الإسلامية على وفق الواقع الحديث، وذلك عن طريق دراسات معمقة وقد كتب بالفعل كثيرًا في هذا.

وليس المجال هنا الطبع الحكم على نجاح أو تعثر هذه الرؤية ولكن نريد أن نشير إلى هذه العقلية القانونينة الكبيرة التي استوعبت واحدة من أعظم منتجات الحضارة الغربية. وهو الذي حصل على درجتي دكتوراه من فرنسا، ففهم النسق الفكري الذي أنتج هذه القوانين، وقام بتفكيك هذا النسق وإعادة إنتاجه في واقع بيئته على مراحل مختلفة، وذلك حسب التحديات التاريخية المصاحبة لمشروعه، سعيًا لتجاوز هذا المنتج الحضاري للآخر وإنشاء منتج حضاري خالص مؤسس على قيم حضارية متفاعلة مع الزمان والمكان.

وفي عصرنا الحديث أيضًا عقلية فلسفية متميزة في هذه المنهجية، بل هو من أبرز من أشار إلى تميز النسق الحضاري الإسلامي بآلية الاستيعاب والتجاوز وهو الدكتور محمد أبو القاسم حاج حمد (1941- 2004) الذي تحدث عن مشروعه الفكري في كتابه "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة" بأن العالمية الإسلامية الثانية أو البعث الحضاري الجديد لهذه الأمة سيرتكز على استخلاص المنهج المعرفي القرآني من خلال ما سماه الجمع بين القراءتين (قراءة للفعل الغيبي الإلهي وقراءة للفعل الإنساني والطبيعي)، الذي سيمكن الأمة من طرح إنساني جديد لرؤية كونية قادرة على استيعاب الجدليات الفلسفية السابقة والإجابة عن عديد من إشكالياتها ثم تجاوز هذه الأطروحات السابقة نحو فهم جديد يأخذ بالأبعاد الثلاثية في جدلية الغيب والإنسان والطبيعة ليطرح أدوارا معاصرة للأمة المستخلفة قائمة على قيم حضارية إسلامية تعكس الفعل الإلهي الذي ينهج بالمسيرة الإنسانية نحو الوحدة والسلام والرحمة.

بالطبع هذا التخليص المخل لأطروحة الدكتور أبو القاسم لا يوفيها أو يوفيه حقه، ففي طياتها تفصيل طويل، ولكن أردنا الإشارة إلى المنهجية نفسها التي اعتمدها حين أراد الحديث عن عالمية جديدة لهذه الأمة، وكيف أن المنهج المعرفي القرآني الباعث على هذه العالمية يصوغ العقل المسلم برؤية كونية تستطيع استيعاب المنتجات الفكرية للمسيرة الإنسانية وتتجاوزها نحو فهم أعمق وأكمل لحقيقة وجود الإنسان على هذه الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.