شعار قسم مدونات

رؤية منهجية في التفاعل الحضاري (2)

An artist rendering shows a reconstruction of what would have been ancient Maya cities nestled in the area known as the Mirador-Calakmul Karst Basin (MCKB) of northern Guatemala and southern Campeche, Mexico, after a study using LiDAR laser technology by seven foundations and organisations, in this undated handout image. FARES USA/Handout via REUTERS
الفعل الحضاري لا ينشأ من فراغ ولا يخاصم الواقع بل ينطلق منه مكملًا أو محسنًا (رويترز)

تحدثنا في المقال السابق عن منهجية الاستيعاب والتجاوز كمسار مقترح للتفاعل الحضاري، وعرفنا ما المقصود بالاستيعاب والتجاوز. وفي هذا المقال نشير إلى 3 فوائد لهذه المنهجية؛ لعل ذلك يدفع تجاه تبنيها والحوار بشأنها.

فوائد منهجية الاستيعاب والتجاوز:

  • لعل أبرز فوائد هذه المنهجية أنها تبنى على التراث المتراكم للمنجز البشري، وتوجه العقول لاستيعاب ما تم وأُنتج سابقًا، وفهم مرتكزات هذا الإنجاز وأفكاره وقيمه الموجهة لفعله الحضاري، وهي (أي هذه المنهجية) بذلك تنأى بنفسها عن دعاوى القطيعة التي طالت العديد من منهجيات التجديد والإنتاج الحضاري والتي غلب عليها الخوف من أن تكون أسيرة ماضٍ هي أحرص ما تكون على عدم تكراره أو السير في ظلاله.

إن هذا الاستيعاب العميق والمبني على فهم وتفكيك النموذج أو الفكر السابق -كما بينا- يقر بأن المنبت الذي لا أصل له لا يثمر ولا يرسخ في الأرض، وأن المسيرة البشرية لا غنى لها عن الاعتبار بما مضى كما وجه القرآن الكريم ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ([1])، بل والنظر للتراث الداخلي ومنتجاته الفكرية كجزء من هوية الأمة المشكل لعقليتها والنظر لتراث الآخر كجزء أصيل من فهم النسق الفكري للمسيرة الإنسانية واللازم لإنتاج جديد مثمر. إذًا هو استيعاب يملأ العقل فهمًا والروح ثقةً والجسد رسوخًا يشبه هذا الوثاب الذي يرجع خطوات للخلف حتى يتسنى له الوثب بعيدًا إلى الأمام من نقطة وقوفه الآن.

  • من فوائد هذه المنهجية أيضًا أنها ترسخ لأهمية الاشتباك مع الواقع لأن أصل التجاوز الذي بيناه لا يتم إلا بالتحرك للأمام من نقطة حالية لا بد من فهمها حتى يمكن أن ندرك أين هذا الأمام ومتجهه.

إن مثل هذا الاشتباك يدل على واقعية هذه المنهجية واستيعابها، وإن الفعل الحضاري لا ينشأ من فراغ ولا يخاصم الواقع، بل ينطلق منه إما مكملًا أو محسنًا أو حتى مصادمًا، ولكن لا غنى له عن الانطلاق منه. هذه الفائدة تجمع ولا تفرق وتفتح الباب أمام مختلف الطاقات في الأمة لفعل حضاري يناسب إمكاناتها بين مضيف بقدر أو مبدع بباع طويل، وما بين مراكم على واقع في حركة دؤوبة تبغى تجاوز هذا الواقع ومن يريد تجازوه في إطار ثوري جذري يخرج من النسق القائم سريعًا.

إن التجاوز دعوة للإنتاج الحضاري الجديد الذي يجاوز واقعًا هو ينطلق منه ويغير واقعًا هو مستوعبة، ولكن لا يظل أسير نمطه ونسقه، وبذلك تتقدم المسيرة الحضارية ولا تتعطل بالدعوة إلى هدم الواقع وتجييش الآلات والكتائب لهذا الهدم، بل تنظر وتبصر في أفضل وسائل الاشتباك والتجاوز لهذا الواقع والتقدم الإيجابي للأمام.

  • الفائدة الثالثة لهذه المنهجية هي تفادي الثنائيات وتجاوز الاستقطاب الذي طالما عانت الجماعة البشرية منه خلال مسيرتها الفكرية، وذلك في أشكال مختلفة على حسب طبيعة هذه الثنائيات.

فأحد هذه الأشكال أن تتنازع العقول فكرتين على طرفي نقيض؛ فينتج هذا استقطابًا يختلف في شدته على حسب بعد هذين الطرفين. فمن الأمثلة المشهورة ما قدمنا به هذه المقالات من مدرستين فكريتين في الملف الحضاري: إحداهما لا تنظر إلا إلى الوراء، والأخرى لا تنظر إلا إلى الحاضر، وما نشأ عن ذلك من استقطاب لا داعي لإعادة الحديث عنه. وكذلك الاستقطاب الذي أدار الصراع الفلسفي الممتد بين الفلسفة المادية والفلسفة الروحية.

أما الشكل الأكثر شيوعًا في محنة الثنائيات الفكرية فهو الذي ينشأ بسبب بروز اتجاهين أو فكرتين ليستا بالضرورة مختلفتين ولكن يصعب التوفيق بينهما لاختلاف أصليهما اختلافًا بيّنًا. ومن أشهر الأمثلة في ذلك مدارس التغيير التي انقسمت بين كونها تدريجية إصلاحية لا تغير الواقع دفعة واحدة، وبين تلك التي تتبنى تغييرًا جذريًا سريعًا للواقع يكون ثوريًا في أهدافه وأشكاله.

هذه الثنائية التغييرية لها تجليات في السياسة الحزبية وغير الحزبية ليست على مستوى اليمين واليسار كما قد يظن البعض، ولكن على مستوى التطلعات ودرجات الفعل السياسي والاستعداد للمخاطر السياسية. كذلك لها تجليات في مدارس الإصلاح الاقتصادي بين الراغب في تغييرات تحسينية تحل بعضًا من أزمات النظام الرأسمالي القائم مثلًا وتزيده إنسانية، وبين من يريد أن يؤسس لقواعد جديدة تصادم التوجه المالي المادي المحض للسوق وتجعل الاقتصاد تابعا لا متبوعا (مع اختلاف أجندة هذه التبعية بين اجتماعية أو أخلاقية أو غير ذلك).

ونرى كذلك من التجليات الحديثة مدارس الاستدامة البيئية التي انقسمت في رغبتها في إصلاح الواقع البيئي بين من رضي بالتماهي مع أنماط الإنتاج والاستهلاك القائمة، مع جعلها صديقة للبيئة، وما بين من يريد اقتلاع هذه الأنماط وإحلال أُخر مكانها؛ إيمانًا منهم بأن هذه الأنماط هي -في الأساس- سبب المشكلة ولا حل من دون التخلص منها.

قل مثل ذلك في أمور عديدة مما تنازع الناس في تاريخهم وحركة مجتمعاتهم، بل وفي أديانهم، ولكن الشاهد هنا ليس التفصيل في هذه الثنائيات ولا الحكم على أي القطبين أفضل أو أحق، إنما في الإشارة إلى أهمية البحث عن منهجية تحاول ما استطاعت تلافي هذه الديناميكية الثنائية الخشنة حين تطرح مشروعًا حضاريًا يجمع ولا يفرق، ويسعى لتوحيد الأهداف وتركيزها لا تمزيقها. ومع الإقرار بأن وحدة البشر غاية لا تنال لأن هذا مخالف لمراد الخالق (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [2] وباعث على التنميط القاتل للإبداع والثراء المنتج، إلا أن المشروع الحضاري لا بد له من منهجية تقارب هذه الثنائيات بطرح لا يعيد الاستقطاب، بل يستفيد منه ويريح عموم الأمة من حرج التحيز لأي الأطراف، ثم يبني عليه إن استطاع أو يمضي قدمًا في مسار بعيد عن هذه الضوضاء، محافظًا على طاقة وتركيز الجموع الساعية لواقع جديد. هذه المنهجية في نظرنا قد تكون هي القدرة على الاستيعاب والتجاوز بالأشكال التي تحدثنا عنها آنفًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

([1]) سورة يوسف، آية: 111.

([2]) سورة هود، الآية: 118.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.