شعار قسم مدونات

حرق القرآن في عيون عربية

مئات المتظاهرين يتلون القرآن جماعيًّا في مدينة مالمو السويدية
مئات المتظاهرين يتلون القرآن جماعيا في مدينة مالمو السويدية (مواقع التواصل الاجتماعي)

رأينا محاولات حرق القرآن تتزايد وتنتشر، ويدافع عنها وعن مجترحيها تحت مسميات انتقتها فرقة من أهل هذا العصر، وتبعها في ذلك من تبعها، فسموا "حرية التعبير"، وسموا "حقوق الإنسان"، ومكثوا في أقبية الاصطلاحات ينتقون منها ما يبررون به قبيح أفعالهم، وجلي اعتداءاتهم على كلام قدس معنى ولفظا في صدور ما يزيد على 2 مليار إنسان من مختلف القوميات والجنسيات، كان آخر هذه المحاولات ما حدث في دولة السويد أول أيام عيد الأضحى المبارك، يقول تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد". [البروج – 8]

أبناء الفرقة المبادرة إلى حرق القرآن، هم هم أبناء الفرقة التي حاربت الكنيسة في قرون سابقة، باغين أن تهمش الشرائع الأخلاقية التي ترفع الإنسانية في الإنسان، وأن تحصر بين جدران الكنائس والمعابد والبيوت

لم يحرقون القرآن؟

إن الاستفاضة في الاستنكار لهي خير كلها، ففيها إظهار الاعتزاز بالانتماء لهذا الدين، وفيها الإعراب عن الجرأة، وفيها التصريح بعداوة المعتدي. وخير الاستنكارات ما وضح وبيّن للعقول أسباب هذه الاعتداءات الغاشمة، الصادرة عن قرائح غلب على خيرها شرها، وحبب الاعوجاج على الاستقامة في صدور أهلها.

والمرء منا في هذا العصر الذي كبر فيه شأن العلم، وعظمت فيه مكانة العقل في حاجة إلى امتلاك أسلحته، لأننا كما قال شيخ العربية (محمود شاكر)، رحمه الله، في ميدان حرب لم تهمد جذوتها وإن ظهرت خامدة للأعين غير المتبصرة، حرب على القيم والمبادئ، ميادينها الفكر والأدب والثقافة، وغايتها طمس كل القيم التي حملها الشرق طورا عن طور، وشريعة بعد شريعة، استخدمت فيها أسلحة أمضى من حدود السيوف، وأشد اختراقا من أسنة الرماح، لأنها تعمل على اختراق عقلي وعقلك، وتبديل قيمهم الغربية الليبرالية المنحرفة بقيمنا العربية والإسلامية المشرفة، فإن تبدلت هذه القيم نحرت المقاومة على مذبح الفكر والأدب والثقافة، وصار الشرقي غربيا إلا في لون جلده ولفظ اسمه الذي يتعرى وقتها من معناه، ومعاذ الله أن يكون هذا، وإن مدافعة القوم في غيهم فرض يرجى منه منع الفساد، أو الحد من انتشاره، وقال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولٰكن الله ذو فضل على العالمين". [البقرة -251]

وكن على ذكر أن أبناء الفرقة المبادرة إلى حرق القرآن، هم هم أبناء الفرقة التي حاربت الكنيسة في قرون سابقة، باغين أن تهمش الشرائع الأخلاقية التي ترفع الإنسانية في الإنسان، وأن تحصر بين جدران الكنائس والمعابد والبيوت، وتكون الشوارع والأسواق وأماكن العمل محلات لا دينية، ثم تركت هذه الفرقة شعوبها بلا بديل فكري ليحل محل هذا الدين الذي همشوه ودفعوه جانبا، فزاد البغي والفحش والظلم، وارتفعت مستويات الاكتئاب والانتحار، وأثرى الله فيهم أولاد الزنا، واكتنز القوم أموال الربا، وصار كثير من أهل تلك الأوطان على مذهب الوحوش المفترسة ينهش بعضها بعضا سعيا لمال أكثر، ومنصب أرفع، وشهرة أوسع.

وليس حرق القرآن إلا حملة جديدة من أبناء هذا الفكر المنحل، الذي لا يملك بديلا أخلاقيا للأفكار التي يحاربها، والذي ترك أهل الغرب المسيحي، سابقا، بلا دين يهديهم ويقومهم، إذ انقلبت الدول المسيحية إلى دول إبليسية محاربة لفكرة الدين، أيا كان هذا الدين، رافضة امتداده حتى بالسلم، فليس القرآن العظيم إذا مرادا لذاته، ولا هدفا دون غيره إلا لما يكنه بين دفتيه من أوامر العدل والإحسان، وفلسفته الاستثنائية الناصعة في تعريف السمو والانحطاط، وحضه المؤمنين به على التحلي بمكارم الأخلاق، وأنعم بها من حلية، فهو عدو كما كان الإنجيل عدوا في قرون سبقت، لأنه يسفه أحلامهم، ويفصح عن شرهم بإفصاحه عن مسالك الشر وعواقب مرتاديها.

نشأنا جميعا في هذا الشرق على سير الأبطال المجداء، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل المجد، وأي مجد ذلك الذي يفوق حفظ الديار ومنع الذمار؟ وعرفنا صدقهم في الحرب، وحزمهم في خوض غمارها إذا أزف الجد

إجماع الفرقاء

كثف الباحثون المسلمون الأفاضل الجهود لكي يخرجوا طرحا إسلاميا لحقوق الإنسان، يتماشى مع روح العصر، ولا يخرج عن حدود العقيدة الإسلامية، ومنهم الدكتور الفاضل (حسين هوشمند)، الذي سعى في كتابه (الإسلام وحقوق الإنسان) إلى طرح نهج جديد لحقوق الإنسان، يجتمع عليه المتدينون والملحدون، وهو ما أشار إليه بـ "إجماع الفرقاء"، محاولا وضع يده على طرح يوافق عليه المختلفون اعتقادا، بما لا يخالف اعتقاداتهم، واعتماده دستورا عالميا لحقوق الإنسان لا يتطرف فيه الليبراليون بدعواهم الأقصوية، ولا يتعصب فيه الأدنويون ذوو النزعة الاستبدادية، بيد أن الدكتور الفاضل، وإن كان أحسن في عمله، يتكلم ونظراؤه في فضاء الفلسفة السياسية الرحب، التي تتعامل مع الأفكار أكثر من تعاملها مع البشر من جهة أنهم بشر، فهل رفع يوما حق لكونه حقا فحسب؟ أم رفع بغير العلم النافع الذي ينافح عنه السيف المسلول الماضي؟

بين المأمول والموجود

لقد نشأنا جميعا في هذا الشرق على سير الأبطال المجداء، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل المجد، وأي مجد ذلك الذي يفوق حفظ الديار ومنع الذمار؟ وعرفنا صدقهم في الحرب، وحزمهم في خوض غمارها إذا أزف الجد، وهدد الأهل والبيت، فقرأنا عنترة العربي يقول:

لما سمعت دعاء مرة إذ دعا .. ودعاء عبس في الوغى ومحلل

ناديت عبسا فاستجابوا بالقنا .. وبكل أبيض صارم لم ينجل

وقرأنا أن عليا، رضي الله عنه، لما أقبل على مرحب يوم خيبر، وهو الفتى البطل ونظيره الفارس الطائر الصيت، ينشد:

أنا الذي سمتني أمي حيدره .. ضرغام آجام وليث قسوره

وعرفنا قول النبي الأحمد، عليه سلام الله في العالمين وأكرمنا الله بصحبته في عليين، وهو يرى جيشه قد انفض عنه يوم حنين، وهو أقرب الجمع إلى العدو، يركل بغلته صوب أعدائه وهو يزأر: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب." لقد عرفنا من مثل هذه الأخبار ما يملأ الصدر عزة، والنفس همة، بيد أننا وعيناه في واقع لا يسعنا فيه التصرف، ولا نملك فيه المواجهة بما في هذه الصدور من عزة، والنفوس من همة، والسجايا من إباء وشجاعة وإقبال على العدو، إذ قيدتنا هذه المهازل التي تسمى أنظمة حكم، وسعت في جعلنا قوما سيوفهم في كتبهم، وحروبهم في قبور آبائهم وفضاءات أخيلتهم. وقد قال الأول: "من أمن العقوبة أساء الأدب". وإن الدول لا تتقدم، والشعوب لا تعز بلا قوة تفرض على الأجنبي سماع قولهم، وأخذه على محمل الجد.

"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين". [البقرة-286].

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.