شعار قسم مدونات

العبور والثقافة الحضارية (3)

arabic muslim man speaking to audiance in a Mosque in the 19th century CREDIT: ALJAZEERA Midjourney
لم تكن المدارس النظامية مجرد مدارس علوم شرعية؛ بل كانت تجسيدا لمرجعية المجتمع لتراثه وعلمائه واستلهامه لهذه المرجعية في مسيرته الحضارية (الجزيرة-ميدجورني)

بعد التطويف السريع والمحدد شرقا وغربا في مقال سابق عمن سميناهم "رجال المعابر"، نأخذ مثالا من تاريخ أمتنا لأحد هؤلاء الذين عبروا ببعض أفكار وقيم تراثنا إلى واقع الحياة ونشير هنا إلى الوزير نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي (1017م- 1092م) في عهد الدولة السلجوقية، الذي تضلع بالتراث الإسلامي في نشأته من فقه ولغة وأصول وتضلع أيضا بواقع دولته؛ حيث عمل وتدرج في دواوينها المختلفة، فلما لاحت له الفرصة من الواقع عبر سلطته كوزير مقرب ومصدق من السلطان ألب أرسلان (1029م- 1072 م)؛ ومن بعده ولده السلطان ملكشاه (1055م- 1092). وأسفر هذا التضلع والانشغال بهمّ الأمة عن إنتاج منظومة علمية جديدة في عصرها؛ ألا وهي ما عرفت بالمدارس النظامية. وقد ذكر ابن خلكان أن "نظام الملك أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس"، وهي منظومة تجعل تعلم التراث على منوال منهجي تراثي يجمع علوم الآلة والمنقول والمعقول مع ملازمة للعلماء لضمان اتصال أسانيد هذه العلوم، فكانت نقلة مؤسسية ترسخ للحاضنة العلمية داخل جسد الأمة وتضمن توسعها المنضبط.

ومما زاد من فاعليتها أنه ألحق هذا النظام بمنتج حضاري آخر، وهو "الوقف"؛ لضمان استقلال هذه المنظومة، واستحدث نظاما جديدا في هذا الميدان عن طريق مخصصات وسكن وخدمات للطلاب والمدرسين.

ولم تكن المدارس النظامية مجرد مدرسة علوم شرعية؛ بل كانت تجسيدا لمرجعية المجتمع لتراثه وعلمائه واستلهامه لهذه المرجعية في مسيرته الحضارية ومصدرا لفاعليته وهو ما يفسر انتشارها السريع في كل الحواضر الإسلامية واستنساخها في حقب لاحقة في عصور المماليك والعثمانيين وغيرهم، بل أشار العديد من المؤرخين إلى الدور الذي لعبته هذه المدارس في المشاركة في دفع العديد من التحديات التي واجهت الأمة؛ كما فعلت النسخة الزنكية من هذه المدارس للإعداد لرد الهجمات الصليبية.

حين يأتي الزمان الذي تسأل فيه أي أحد من أغنياء أو فقراء الأمة على اختلاف درجات علمهم وأدوارهم العلمية "ماذا تفعل في حياتك؟"، فيجب أن له دورا يلعبه صغر أو كبر في الإنجاز الحضاري لأمته ويشرحه ببساطة لك؛ فاعلم أن خلف هذه الحالة جهودا عظيمة من "رجال المعابر".

ورغم الجدال التاريخي المتعلق بأهداف نظام الملك من إنشاء هذه المدارس السياسية والدينية، فإننا نرى أن هذه المدارس كمنتج حضاري يجعل من نظام الملك أحد رجال المعابر الذين استطاعوا تنزيل أفكار ورغبات الأمة (وهنا نعني تفعيل التراث) إلى أرض الواقع بنموذج قابل للحياة والتكرار والإنتاج، وهو نموذج خرج -كما أسلفنا- من رحم استيعاب نظام الملك للتراث وقيم العلم وكذلك اشتباكه مع الزمان والمكان وفهمه للإمكانيات المتاحة.

وبعد هذه الأمثلة التاريخية نعود لعصرنا الحديث فنجد أن رجال المعابر يقفون وراء العديد من الحراك المجتمعي في قضايا مختلفة بفضل تمكنهم من العبور بالأفكار والقيم الملهمة من عالمها التجريدي إلى عموم الناس في المجتمع، ففهموها وتبنوها، وعديد منهم تحرك وكان أحد أركان البعث الحضاري والذي يؤدي إلى حوار وتبني مجتمعي لمبدأ الفاعلية الحضارية؛ كمثلٍ أعلى يحيا به وله الناس، في وقت غلب فيه اليأس وفشلت فيه عدة أيديولوجيات في جمع شتات الأمة والإجابة عن سؤال الحضارة والإنجاز المعاصر.

وحين يأتي الزمان الذي تسأل فيه أي أحد من أغنياء أو فقراء الأمة على اختلاف درجات علمهم وأدوارهم العلمية "ماذا تفعل في حياتك؟"، فيجب أن له دورا يلعبه صغر أو كبر في الإنجاز الحضاري لأمته ويشرحه ببساطة لك؛ فاعلم أن خلف هذه الحالة جهودا عظيمة من "رجال المعابر" لحشد الطاقات جيلا بعد جيل وجمعها على أفكار وقيم حضارية ثم تنزيلها وتوضيحها في اشتباك واقعي لامس كل فرد في مجاله وفي إطار حياته مهما صعبت، وإنه لجهد، لو تعلمون عظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.