شعار قسم مدونات

خرافة القمامة الجينية الإلحادية في ميزان العلم التجريبي

العلم التجريبي المبني على الدليل اكتفى بتقسيم المادة الوراثية إلى قسمين، مشفر وآخر غير مشفر (شترستوك)

في أوائل القرن الماضي ظهرت نظرية تربط بين درجة التعقيد الشكلي والفسيولوجي للكائن الحي وبين كمية المادة الوراثية التي يحملها، فافترض أنه كلما زاد ذلك التعقيد احتيج إلى مادة وراثية أضخم تشفر عددا أكبر من البروتينات اللازمة للقيام بالوظائف الحيوية المعقدة لأجهزة الجسم كالجهاز العصبي والهضمي والتكاثري وغيرها، مقارنة بالكائنات الحية البسيطة كبعض الكائنات الدقيقة والنباتات التي لا تمتلك أجهزة حيوية معقدة، وعلى ضوء هذه النظرية فإن الإنسان (الذي يمتلك أجهزة حيوية معقدة) يحمل مادة وراثية أضخم بكثير بالمقارنة مع باقي الكائنات البسيطة.

العلاقة بين كمية المادة الوراثية والتعقيد الحيوي

ولكن علوم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية في أواخر هذا القرن نفت تلك الفرضية وأكدت أن كمية المادة الوراثية ليس لها علاقة أبدا مع درجة التعقيد الحيوي للكائن الحي، فمثلا يحتوي نبات البصل رغم بساطة تركيبه الشكلي على جينوم (المادة الوراثية) هو أكبر بحوالي 5 مرات من حجم الجينوم البشري. وقد اكتشف حديثا نوع من الأميبيا (كائن حي مجهري وحيد الخلية) يحتوي جينومه على 670 مليار زوج قاعدي بالمقارنة مع الإنسان الذي يبلغ حجم الجينوم الكامل لديه 3.4 مليارات زوج قاعدي فقط، أي أكبر من جينوم الإنسان بـ 200 مرة تقريبا.

في الواقع قد أحدثت هذه النتائج إرباكا وحيرة عند الباحثين، فلماذا يحتاج البصل ذو التركيب البسيط إلى 5 أمثال جينوم الإنسان؟ عرفت هذه المعضلة في الوسط العلمي بأحجية القيمة سي (C).

رسم توضيحي مبسط يفترض تناسب حجم الكائن الحي مع كمية مادته الوراثية (الجزيرة)

فكرة متخلفة لحل معضلة علمية

كان البحث العلمي سابقا يركز على القسم الذي يحمل المعلومات اللازمة لتركيب البروتينات والأنزيمات المسؤولة عن مختلف الوظائف الحيوية، وقد وجد أن 2% فقط من جينوم الإنسان يقوم بالتشفير لتلك المعلومات، لذلك سمي الجزء الباقي الذي تبلغ نسبته 98% بالحمض النووي غير المشفر ولم تعرف له وظيفة في تلك الأثناء.

لحل لغز القيمة سي (C) طرح البعض فكرة تتعارض مع منهج البحث العلمي، فزعموا أن الكائنات الحية تحتوي على الكثير من المادة الوراثية الفائضة غير المرغوب فيها، وأطلق عليها مصطلح (Jank DNA) أي الحمض النووي غير المرغوب به (خردة)، واعتبروا أن هذا الجزء هو عبارة عن بقايا العملية التطورية للإنسان عبر ملايين السنين.

طرحت هذه الفكرة قبل أن يفرغ العلماء من تحليل الجينوم البشري الكامل بعدة عقود من الزمن. إن عدم فهمهم لوظيفة الجزء غير المشفر من الجينوم حملهم على تصنيفه كخردة. نشر الإعلام ذلك المصطلح وسادت فكرة مفادها بأن الجزء الأكبر من الجينوم البشري هو خردة ليس له وظيفة، وهكذا تم الاعتقاد أن نظرية التطور حلت اللغز وأجابت على السؤال الذي حير العلماء حينا من الدهر: لماذا تحتوي بعض النباتات البسيطة كالبصل والقمح وبعض الحيوانات كالسلمندر على جينوم ضخم جدا بالمقارنة مع الإنسان الأكثر تعقيدا؟

قياسا على المادة الوراثية للإنسان، فإن المادة الوراثية التي يحملها الكائن الحي البسيط على ضخامتها هي خردة لا فائدة منها، إذن مبدأ الفكرة يقوم على أن الشيء الذي لا نعرف له وظيفة ولم نفهم عمله هو خردة وقمامة غير مرغوب بها. شكلت هذه النقطة مادة دسمة لبعض صناع المحتوى الذين باتوا يدورون حول سؤال: كيف لصانع وخالق متقن أن يسمح بوجود خردة لا حاجة ولا وظيفة لها في خلقه المحكم؟ هذا يدل على أن هذ المخلوق المحمل بالقمامة الجينية هو فعل التطور، وغالبا ما يترافق محتوى العرض في الخلفية لصورة شريط DNA يسقط في سلة قمامة.

لكن العلم التجريبي المبني على الدليل اكتفى بتقسيم المادة الوراثية قسمين، قسم مشفر وآخر غير مشفر.

في النبات يلعب miR156 دورا أساسيا في تنظيم وقت الإزهار والانتقال من النمو الخضري إلى النمو التناسلي

وظيفة الحمض النووي غير المشفر وفق المنهج التجريبي

تم إطلاق مشروع ENCODE عام 2003 الذي هدف إلى تحديد جميع العناصر الوظيفية في الجينوم البشري، وشارك بهذا المشروع الضخم عدد كبير من المعاهد البحثية، كشفت النتائج بعد 9 سنوات أن جزءا كبيرا من الحمض النووي غير المشفر تتم ترجمته إلى أنواع كثيرة من الحمض النووي الريبوزي غير المشفر الذي يلعب دورا هاما في تنظيم التعبير الجيني. ويوجد الآن مئات الأبحاث العلمية الحديثة التي تتحدث عن دوره وتؤكد أن وظائفه لا تقل أهمية عن الجينات التي تشفر للبروتينات، وإن إزالة ذلك الجزء هو بمثابة إزالة للمقود والفرامل من العربة.

ويبين الرسم التوضيحي التالي الأنواع المتعددة التي تنتج من الحمض النووي غير المشفر:

الخريطة الجينية (الجينوم) البشرية
الخريطة الجينية (الجينوم) البشرية (الجزيرة)

سأسلط الضوء من بين تلك الأنواع فقط على MicroRNA (miRNA)، وهو عبارة عن جزيء صغير من الحمض النووي الريبي غير المشفر له القدرة على الارتباط مع الرنا المرسال messenger-RNA مؤديا إلى منع ترجمته وإيقاف تصنيع البروتين، وهذا ما يطلق عليه إسكات الجينات، بين العلماء في تقاريرهم أن هذه الجزيئات الصغيرة تحمل أسرارا ومفاتيح أمراضا عديدة كمرض السكري بنوعيه وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب وأمراض المناعة الذاتية.

في النبات يلعب miR156 دورا أساسيا في تنظيم وقت الإزهار والانتقال من النمو الخضري إلى النمو التناسلي، وأما miR828 فهو يتحكم في لون الزهور من خلال تنظيم التعبير عن الجينات المشاركة في التخليق الحيوي للأصباغ. ومن طريف ما اطلعت عليه ورقة بحثية تتكلم عن احتواء الغذاء الملكي للنحل على جزيئات متنوعة من الرنا غير المشفر وأثرها في التعبير الجيني، فقد تم إطعام يرقات نحل آسيوية (لون البطن أسود) بغذاء ملكي ناتج من سلالة نحل أوروبية (لون البطن أصفر) فكانت المفاجئة أن اليرقات الآسيوية تحولت لملكات ذات لون بطن أصفر مثل ملكات النحل الأوروبية، رغم أنها تحمل جينات سلالة النحل الآسيوي، وقد حدد الباحثون الجزيئات المسؤولة عن إسكات جين الميلانين عند يرقات النحل.

إن البحث في الحمض النووي غير المشفر هو مضمار جرت فيه أقدام العلماء حديثا، فاستخرجوا منه (miRNA) كابت للجينات الورمية لعلاج السرطان، وقام آخرون بمحاكات (miRNA) له القدرة على الارتباط بالرنا الفيروسي لمنع الفيروس من تركيب بروتيناته وإيقافه، بينما طور بعضهم اختبارات صنفت (miRNA) علامة حيوية كشف عنه في اللعاب والبول والدم ليصبح له قيمة تشخيصية تتنبأ بصحة وسلامة الأعضاء، وقد بدأت مؤخرا بعض شركات الأدوية مثل Alnylam بإنتاج عدة عقاقير تحاكي في مبدأ عملها (miRNA) لعلاج بعض أنواع السرطانات والتهاب الكبد الوبائي B والسكري من النوع الثاني، وقد تمت الموافقة عليها لتدخل في مرحلة التجربة السريرية.

الاكتشافات الحديثة عن الحمض النووي غير المشفر تزيح أصحاب نظرية الخردة والعشوائية وتلقي بأفكارهم في مكب الخرافة، وما زال أمامنا الكثير، ففي السنوات الأخيرة اكتشف حوالي 2000 نوع من (miRNA)

إن ما كشفت عنه علوم البيولوجيا الجزيئية مؤخرا كان له عظيم الأثر لدى الفيلسوف البريطاني أنتوني فلو الذي كان يعتبر أستاذا لمدرسة الفكر الإلحادي في القرن العشرين، ونشر على مدى نصف قرن 30 كتابا تدور كلها حول فكرة إنكار وجود خالق. إلا أنه تحول إلى الإيمان بوجود إله وختم آخر أعماله عام 2007 بكتاب يدحض فيه كل كتبه السابقة بعنوان "هنالك إله" (There is a God) قال فيه "إن الاكتشافات العلمية الحديثة حول شريط DNA والتعقيد المنظم والمثير للدهشة كان له الدور الأكبر في إقناعي بأن هنالك مصمما ذكيا بارعا يقف خلف التناغم المدهش في عمل عشرات آلاف الجزيئات التي ينتجها ذلك الشريط".

إن الاكتشافات الحديثة عن الحمض النووي غير المشفر تزيح أصحاب نظرية الخردة والعشوائية وتلقي بأفكارهم في مكب الخرافة، وما زال أمامنا الكثير ففي السنوات البضع الأخيرة أكتشف حوالي 2000 نوع من (miRNA)، وقد وجد أن تلك الجزيئات تفرز خارج الخلية وهي موجود ضمن حويصلات تحميها من الهضم لتنتقل إلى مجرى الدم والخلايا بعد تناولها، ووجد في حليب الأمهات والعسل والسائل المنوي للرجل وبعض المواد الغذائية. فلماذا توجد؟ وما دورها في التعبير الجيني؟ هي أسئلة مشروعة لن يجلي لنا حقيقتها ودورها إلا العلم التجريبي بعيدا عن إيديولوجيا الإلحاد التي تمارس التدليس العلمي.

 

المراجع

  • Saliminejad K, Khorram Khorshid HR, Soleymani Fard S, Ghaffari SH. An overview of microRNAs: Biology, functions, therapeutics, and analysis methods. J Cell Physiol. 2019 May;234(5):5451-5465. doi: 10.1002/jcp.27486. Epub 2018 Nov 23. PMID: 30471116.
  • Abdelmawla A, Yang C, Li X, Li M, Li CL, Liu YB, He XJ, Zeng ZJ. Feeding Asian honeybee queens with European honeybee royal jelly alters body color and expression of related coding and non-coding RNAs. Front Physiol. 2023 Jan 26;14:1073625. doi: 10.3389/fphys.2023.1073625. PMID: 36776963; PMCID: PMC9908965
  • There is a God: How the World’s Most Notorious Atheist Changed His Mind, HarperOne 2007.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.