شعار قسم مدونات

مستقبل البوسنة والهرسك إلى أين؟

برج الساعة أحد معالم وقف الغازي خسرو بك
برج الساعة أحد معالم وقف الغازي خسرو بك في العاصمة البوسنية سراييفو (الجزيرة)

إن البلقان هو خاصرة أوروبا الرخوة، وهو مصدر إزعاج تاريخي لها، ولعل أقرب دليل هو اشتعال الحرب العالمية وانطلاق شرارتها الأولى من سراييفو.

فالبلقان -والبوسنة جزء أصيل ومهم منه- كان ولا يزال جزءا من مساومات الشرق والغرب والقوى العظمى، وتحرك الصرب الحادث الآن هو بفعل صراع روسيا والغرب الدامي والمدمر في أوكرانيا، فالروابط العرقية والقبلية والدينية بين الروس (السيفوسلاف) والصرب (اليوغوسلاف) هي أعمق وأسبق وأمتن من روابط الاتحاد الأوروبي الحديث النشأة والمولد، لذا نجد طبيعيا انحياز الصرب بالكلية ودعمهم لروسيا في حربها مع أوكرانيا.

لقد واجهت البوسنة والهرسك تحديات كبيرة في تاريخها الحديث، لا سيما فيما يتعلق بالمشاكل التي تورط فيها الصرب في جمهورية صربسكا. ومع ذلك، في مواجهة هذه الصعوبات تكمن فرصة للبلاد لتشكيل مستقبلها من خلال التركيز على المصالحة والوحدة وبناء مجتمع مزدهر وشامل.

يستكشف هذا المقال المسار المستقبلي للبوسنة والهرسك وإمكانية بناء مستقبل أفضل لجميع مواطنيها، والاتجاه نحو المصالحة والوحدة بعد الأزمات الأخيرة للصرب في جمهورية صربسكا.

وفي البداية لا أحد من شعوب وأعراق البوسنة يريد الحرب الآن تحديدا والجميع يعلم أنها ليست في صالحهم، لكن البلقان تاريخيا يخضع لتأثير المتطرفين من كل عرق، لذا فإننا نرى أن أهم المسارات لبناء مستقبل أفضل للبوسنة هي:

الاعتراف بالأخطاء وخطايا الماضي

من الضروري الاعتراف بأخطاء الماضي وفهم حقوق الضحايا خصوصا والجروح التي لا تزال قائمة، وذلك للتحرك نحو مستقبل أفضل، ويتطلب ذلك جهدا جماعيا لمواجهة التاريخ المؤلم، وإظهار الحقيقة، وتسهيل النقاشات المفتوحة لتحقيق التعافي والشفاء والمصالحة بين جميع المجتمعات العرقية.

الاستثمار في التنمية الاقتصادية المستدامة وبرامج رعاية الرفاه الاجتماعي أمر بالغ الأهمية لخلق فرص عمل وتحسين حياة جميع المواطنين

تقوية مؤسسات الدولة وتعزيز الحوكمة

تعتبر المؤسسات الفعالة وهياكل الحوكمة أمرا أساسيا للاستقرار والتقدم، لذا يجب على البوسنة والهرسك أن تعطي الأولوية لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية تكون شفافة ومسؤولة وتمثل جميع المواطنين من خلال تعزيز سيادة القانون وتعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد، وبذلك يمكن للبلاد ضمان منافسة عادلة وفرص متساوية للجميع.

تعزيز التعاون بين الأعراق

التعاون والحوار بين الأعراق القائم على الاحترام والتقدير المتبادل ضروري لتعزيز الثقة والتفاهم والتعاون بين المجتمعات المختلفة، ويجب بذل جهود لإنشاء منصات ومبادرات تشجع التفاعل وتبادل الثقافات والمشاريع المشتركة، وتعزيز الشعور بالهوية المشتركة والانتماء لدولة البوسنة الموحدة.

التنمية الاقتصادية ورعاية الرفاه الاجتماعي

الاستثمار في التنمية الاقتصادية المستدامة وبرامج رعاية الرفاه الاجتماعي أمر بالغ الأهمية لخلق فرص عمل وتحسين حياة جميع المواطنين، من خلال تعزيز ريادة الأعمال، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتوفير فرص التعليم والرعاية الصحية عالية الجودة، بهذا يمكن للبوسنة والهرسك خلق مجتمع مزدهر وشامل يعود بالنفع على الجميع.

الدعم والتعاون الدولي هما جزءان أساسيان من مستقبل البوسنة والهرسك، ويمكن أن تستفيد البلاد من المساعدة والخبرة من المنظمات الدولية والمانحين والدول المجاورة مثل تركيا

الاندماج والانضمام للاتحاد الأوروبي

الانضمام للاتحاد الأوروبي لا يزال هدفا مهما للبوسنة والهرسك، لذا يجب أن تستمر البلاد في جهودها لتحقيق المعايير اللازمة وتحقيق المتطلبات الخاصة بالانضمام الى الاتحاد.

يوفر الاندماج الأوروبي فرصا للنمو الاقتصادي وزيادة الاستقرار والتوافق مع المبادئ والقيم الديمقراطية والاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا يمكن التعويل على النظام القانوني الأوروبي والدولي في ظل الإسلاموفوبيا الحالية التي تجتاح العالم وخصوصا مع صعود اليمين المتطرف بأوروبا وبروز سياسة الكيل بمكيالين، ولابأس من المحاولة، لأن الأوروبيين الرسميين كحكومات يعتبرون استقرار البوسنة أمنا قوميا للاتحاد الأوروبي، فنرى أن الوحيدين القلقين على الأمن والسلام هم قادة الاتحاد الأوروبي، وقد تكون هذه ورقة ضغط مهمة إذا أحسن استخدامها.

الدعم والتعاون الدولي

الدعم والتعاون الدولي هما جزآن أساسيان من مستقبل البوسنة والهرسك، ويمكن أن تستفيد البلاد من المساعدة والخبرة من المنظمات الدولية والمانحين والدول المجاورة مثل تركيا، ومع أن العقلية الصربية لا تعتبر أن تركيا محايدة ولديها عقدة تاريخية مع الأتراك العثمانيين، فإن تركيا كدولة إقليمية محورية لها روابط تاريخية بالبلقان والبوسنة تستطيع أن تلعب دورا أساسيا في التنمية الاقتصادية، وهو دور يشهد الجميع بتفوق الأتراك فيه، في حين لا يمكن التعويل الآن على النظام العربي أو الإسلامي الرسمي في دعم جهود وحدة البوسنة وبناء مستقبل مشرق لها، في ضوء ما تعانيه الدول العربية والاسلامية الآن من أحداث وتطورات، رغم أن بعض الدول العربية القوية اقتصاديا لها بعض النفوذ بالمنطقة.

ونخلص إلى أن التعاون مع المجتمع الدولي يمكن أن يوفر للبوسنة بسبب أهميتها الجيوسياسية موارد قيمة وخبرات وإرشادات في مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية.

يرى الكثير من مفكري البوسنة أن الرادع الأهم لمتطرفي الصرب هو وجود جيل من شباب البوشناق المسلم الواعي والحريص على وحدة البوسنة والقادر على التعايش السلمي الحقيقي، كما فعل علي عزت بيغوفيتش رحمه الله خلال حياته

في ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في البوسنة التي أظهرت نتائجها خسارة وتراجع حزب جبهة العمل الإسلامي (الوريث الشرعي لمشروع الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش) لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي (وريث الحزب الشيوعي) بسبب رئيسي هو الفشل في تكوين قاعدة شبابية تحمل أفكار وآمال الشعب البوسني، وبسبب عدم قدرته على مخاطبة جيل ما بعد الحرب، وكذلك عدم تقديم حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، مما دفع الناخبين للتصويت في اتجاه التغيير.

لقد واجهت البوسنة والهرسك مشاكل كبيرة فيما يتعلق بتصرفات الصرب الأحادية في جمهورية صربيسكا -جمهورية صرب البوسنة- ومع ذلك فيمكن من خلال الاعتراف بالماضي وتقوية مؤسسات الدولة وتعزيز التعاون بين الأعراق وإعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية ورعاية الرفاه الاجتماعي والسعي نحو الاندماج مع الاتحاد الأوروبي، وتبني الدعم والتعاون الدولي، وبناء جيل جديد من الشباب قادر على التعايش في ظل الدولة الموحدة التي تحترم حقوق كل الأعراق.

يرى الكثير من مفكري البوسنة أن الرادع الأهم لمتطرفي الصرب هو وجود جيل من شباب البوشناق المسلم الواعي والحريص على وحدة البوسنة والقادر على التعايش السلمي الحقيقي، كما فعل علي عزت بيغوفيتش رحمه الله خلال حياته، بكل ذلك يمكن للبوسنة والهرسك أن تشكل مستقبلا أفضل لجميع مواطنيها، وعلينا أن ننتظر ونراقب ما ستسفر عنه الأيام والشهور القادمة من أحداث.

قد يكون المسار نحو المصالحة والوحدة تحديا، ولكن مع العزم والحوار والرؤية المشتركة يمكن للبلاد أن تتغلب على صعوباتها وتظهر كأمة موحدة مزدهرة ومتناغمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.