شعار قسم مدونات

العبور والثقافة الحضارية (2)

An artist rendering shows a reconstruction of what would have been ancient Maya cities nestled in the area known as the Mirador-Calakmul Karst Basin (MCKB) of northern Guatemala and southern Campeche, Mexico, after a study using LiDAR laser technology by seven foundations and organisations, in this undated handout image. FARES USA/Handout via REUTERS
نيوتن ولوك نجحا في العبور بأفكار عصر النهضة إلى الواقع، ما فجّر الطاقات وأنتج الحضارة الحديثة (رويترز)

تحدثنا في المقال السابق عن معنى وأهمية العبور بأفكار الإنجاز الحضاري وهو الجهد الذي يقوم به من أسميناهم رجال المعابر، وفي هذا المقال نشير إلى نماذج من هؤلاء…

نماذج من رجال المعابر عبر التاريخ

كما أسلفنا من قبل فإن الأفكار تحتاج إلى من يعبر بها من عالم التجريد إلى عالم الواقع إن أرادت الحياة، وثقافة الحضارة التي تفتقدها الأمة الآن تحتاج إلى هؤلاء الأشخاص القادرين على استيعاب ما أنتجته النخب من أفكار عن ماهية وأهمية وكيفية البعث والإنجاز الحضاري لهذه الأمة الشاهدة على غيرها ثم العبور بها تنزيلا وتخطيطا وتوجيها إلى قطاعات المجتمع المختلفة.

هؤلاء الأشخاص الذين أطلقنا عليهم رجال المعابر بالإضافة إلى هذه القدرة على الاستيعاب والعبور بالأفكار يتميزون أيضًا بفاعلية خاصة في علاقتهم بالزمان والمكان والمجتمع، وهي فاعلية تجعلهم في اشتباك مرهف ويقظ مع هذا الزمان وهذا المكان وكيفية تحريكهما بالأفكار التي تشبعت بها عقولهم وقلوبهم فتفيض هذه الأفكار منهم إلى الناس وكأن هذا الفيض هو علاجهم مما اضطرم في خوالجهم، وهو ذاته (هذا الفيض) الذي يكون معبر الأفكار للمجتمع.

حالة هؤلاء مع الأفكار كحالة العارفين أهل الوجد الذين تفيض ألسنتهم بأبيات العشق الإلهي مع كل اشتباك زماني أو مكاني يحرك قلوبهم ويذكرهم بمحبوبهم وكحالة إسحق نيوتن (كما أشار إلى ذلك مالك بن نبي) وقد استبدت به أفكار الحركة وقوانينها، فلما رأى سقوط الثمرة من الشجرة، فاضت الفكرة من عقله لتتشكل في شكل قانون الجاذبية، فعبرت الفكرة إلى الواقع.

إذن هؤلاء الأفراد الذين يعبرون بالأفكار إلى الناس من جهة الأفكار هم من أشد الناس فهما واستيعابا لها ومن جهة المجتمع هم من أشد الناس حساسية وشعورًا وتفاعلا مع زمان ومكان هذا المجتمع. فيا لها من حالة عجيبة تعتري قلوب وعقول رجال المعابر هؤلاء.

يعتبر الفيلسوف الصيني منشيوس (372- 289 قبل الميلاد) أحد رجال المعابر البارزين في فترة الممالك المتحاربة في التاريخ الصيني والذي عمل مع آخرين على تنزيل أفكار كونفوشيوس إلى واقع اجتماعي وسياسي ملموس

ينبغي لنا إن كان مقصود هذه المقالة أن نرصد نماذج من هؤلاء الرجال عبر التاريخ أن نبدأ بالحديث عن الرسل الكرام، فهم بلا شك خير من يمثلون هذه القدرة على استيعاب الأفكار (وهي هنا رسالتهم الربانية والوحي) ثم بيانها بأفضل وأكمل حال إلى الناس جميعا كما أشار إلى ذلك المولى عز وجل في قوله: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (سورة إبراهيم/ من الآية 4)، ولكننا نقر بتقصيرنا في أن نوفي هؤلاء الرسل الكرام حقهم ولعلنا نفرد لهم مقالا آخر في هذا الشأن.

نطوف شرقا وغربا في حضارات سابقة وقائمة لنرصد نماذج بعينها من رجال المعابر لا لنسرد قصتهم بل لنقف على ملامح عبورهم من عالم الأفكار إلى عالم الإنتاج الحضاري في الزمان والمكان ونقف بذلك على أهمية هذا الدور في عجلة الفعل والإنجاز الحضاري.

نبدأ من المشرق عند إحدى حقب الحضارة الصينية التي تعتبر أفكار كونفوشيوس (551- 479 قبل الميلاد) أحد أعمدتها، وهي أفكار في مجملها تميل إلى النزعة المحافظة وتزرع في المجتمع الصيني احترام الطقوس كآلية لتصحيح الأوضاع الاجتماعية، والتزام الأخلاق والتقاليد لتكملة النقص في النظام السياسي على أن يكون الدستور قائما على أن يكون الأمير أميرًا والحاشية حاشية والأب أبا والابن ابنًا.

ويكون كل ذلك في إطار محافظ وشديد المركزية، وقانون الأخلاق فيها قائم على أن يكون الخير هو حب الآخرين وإنكار الذات والاستجابة للطقوس. بالطبع أفكار كونفوشيوس أوسع وأعمق من هذا السرد المبستر ولكن الشاهد التاريخي هنا في أن هذه الأفكار احتاجت طوال حقب مختلفة إلى من يعبر بها إلى واقع المجتمع الصيني شديد التقلب في الزمان والمكان.

يعتبر الفيلسوف الصيني: منشيوس (372- 289 قبل الميلاد) أحد رجال المعابر البارزين في فترة الممالك المتحاربة في التاريخ الصيني والذي عمل مع آخرين على تنزيل أفكار كونفوشيوس إلى واقع اجتماعي وسياسي ملموس.

فمثلا حاول تفصيل فكرة "الخير" في المذهب الكونفوشيوسي في الجانب السياسي وطوّرها إلى مفهوم حكومة الخير والتي يتمتع فيها الشعب بأولوية الحكام القصوى وفصل في ذلك عن طريق إجراءات عملية مثل لائحة تمليك الأراضي للمزارعين.

ويحصل كل مزارع على مزرعة وبيت من خلال نظام أصبح معروفا في التاريخ الصيني بنظام "الحقول ذات المربعات التسعة" الذي يمازج ما بين الملكية الخاصة والملكية العامة التي تدعمها الحكومة وكذلك فصل في قوانين لحماية الزراعة وتحقيق الضرائب وحرص كذلك على التعليم أكثر من العقاب لتحقيق أفكار كونفوشيوس المتعلقة بشفافية العلاقات الإنسانية.

وبالرغم من أن أفكار منشيوس تخدم بشكل كبير الحكام (كما هي أفكار كونفوشيوس)، فقد أدت إلى ملامح ديمقراطية مبكرة في الصين وما فصله في وجوب إنشاء حكومة خيرية يعتبر عبورا بأفكار كونفوشيوس من مجالها العام الداعي إلى خير إجمالا ومحبة الآخرين إلى واقع سياسي واجتماعي اتسم بحدة التناقضات بين طبقة الملاك والحكام وبين الشعب لتحيا هذه الأفكار وتتبناها حكومات صينية متعاقبة بدرجات مختلفة.

الحالة الجديدة انتقلت من صراع عاشته أوروبا على من يملك الحقيقة، هل الكنيسة أو العقل؟ إلى حالة انتصر فيها طرح العقل من خلال ما أثبته نيوتن ولوك، بأن طريق الحقيقة هو مزيج من الرياضيات والتجريب والاختبار، وبها تتكشف كل النظم الضابطة لحركة الأشياء الحية وغير الحية

ونتجه غربا لنقف مع أحد أبرز رجال المعابر في الحضارة الغربية الحديثة وهو إسحاق نيوتن ومعه جون لوك، اللذان عبرا بأفكار عصر النهضة إلى عالم الواقع من خلال محاولتهما الأولى من نوعها لطرح رؤية لتنظيم العالم على أساس جديد من العلم التجريبي الفيزيائي الرياضي لتنتقل أفكار فلاسفة النهضة عن قدرة العقل على فهم العالم وجعل الإنسان يتربع على رأس الكون متحكما ومسيطرًا إلى شكل رياضي كامل النظرة الآلية في الطبيعة.

وحقق (في حالة نيوتن) تلك العملية الفيزيائية التركيبية التي ارتكز إليها العلم فيما بعد وبنى رؤية كونية جديدة للإنسان والعالم، وفي حالة لوك فإنه أيضًا عبر بتلك الأفكار إلى ميدان الحريات والحقوق الدستورية والتي بنى منطقتها على نفس المنوال المعتمد على القوانين الطبيعية الاجتماعية.

إن شعبية هذين الرجلين تعود إلى هذا العبور الناجح بالأفكار المتناثرة لعصر النهضة والتي كانت ملكًا شائعًا غير منتظم أو منتج لأي منظومة علمية أو اجتماعية إلى حالة حضارية فاعلة واضحة لجموع المفكرين والعلماء إبان عصر التنوير يحمل لواء علم الطبيعة فيها نيوتن ولواء علم الطبيعة الإنسانية فيها لوك، وأنتجت أسسا ومعتقدات علمية واجتماعية قائمة بشكل كبير حتى اليوم.

وهكذا فإن هذه الحالة الجديدة انتقلت من صراع عاشته أوروبا على من يملك الحقيقة، هل الكنيسة أو العقل؟ إلى حالة انتصر فيها طرح العقل من خلال ما أثبته نيوتن ولوك، بأن طريق الحقيقة هو مزيج من الرياضيات والتجريب والاختبار، وبها تتكشف كل النظم الضابطة لحركة الأشياء الحية وغير الحية، العلمية وغير العلمية وصارت المثل العليا للحركة الحضارية الغربية الحديثة (والتي ما زالت قائمة لحد كبير) هي التوحيد ما بين ما هو طبيعي وما هو عقلي، وفي إطار علمي واضح ما لبث أن وجد طريقه للتطبيق في كل الميادين.

إن هذا التطبيق الواسع الشامل لهذه المثل العليا التي صاغها نيوتن ولوك هي خير دليل على نجاحهما بالعبور بأفكار عصر النهضة إلى الواقع الزماني والمكاني لعموم المجتمع، في وضوح تنزيلي فجّر طاقات هذا المجتمع العلمية والفلسفية فأنتج حضارته الحديثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.