شعار قسم مدونات

رؤية ابن تيمية لإصلاح مؤسسة الولاية

ابن تيمية
ابن تيمية رأى أنه يحرم على ولي الأمر ونائبه تقديم الرجل لولاية لكونه طلبها، أو لقرابة، أو رشوة، أو جاه، أو غيره (مواقع التواصل)

قدم ابن تيمية لولاة الأمور المماليك رؤية إصلاحية في التعيين على الولايات، ورأى أنها مما يصلح حال الدولة بعد أن تفشى فيها الفساد وشاعت فيها الرشوة، بنى ابن تيمية رؤيته الإصلاحية على آية الأمراء {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)} [النساء: 58، 59]. ورأى أنها توجب على الولاة أداء الأمانات، والحكم بين الناس بالعدل، وتوجب على الرعية طاعتهم إن فعلوا ذلك، ثم بيّن لولي الأمر أن أداء الأمانات يكون على نوعين، الأول: أداؤها في الولايات، والثاني: أداؤها في الأموال.

انطلق ابن تيمية في وضع رؤيته من النظر إلى مقصود الولاية، وجمع فيها بين الأخذ بعزائم الأحكام الفقهية ورخصها، فرأى أن الأصل أن يعين الأصلح من النواب في كل ولاية من أمراء الجيش والقضاة ونحوهم، لأن ذلك سبب صلاح البلاد، وأنه يجب على أولئك النواب أن يستنيب كل واحد منهم أصلح من يجده، فقال: "فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه".

رأى ابن تيمية أن ولي الأمر إن ولّى الرجل لرشوة، أو لقرابة، أو غيرها مما كان شائعا زمنه، فإنه يكون قد خان الله ورسوله والمؤمنين

وبناء على ذلك الأصل، رأى أنه يحرم على ولي الأمر ونائبه تقديم الرجل لولاية لكونه طلبها، أو لقرابة، أو رشوة، أو جاه، أو غيره، لأن ذلك سبب فساد الولايات، وهو خيانة للأمانة التي استرعاه الله عليها، واستدل لذلك بقوله ﷺ: "إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه"، وبقوله ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها؛ وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها"، ولأن ولي الأمر مطالب أن يكون تصرفه محققا مصلحة الرعية، لا مصلحة نفسه أو من يلوذ به فقط.

ورأى ابن تيمية أن ولي الأمر إن ولّى الرجل لرشوة، أو لقرابة، أو غيرها مما كان شائعا زمنه، فإنه يكون قد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه، وحشد لذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27]، ومنها أن رسول الله ﷺ قد توعد ذلك الوالي بأن يحرم يوم القيامة رائحة الجنة، فقال ﷺ: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة"، ذلك أن رسول الله ﷺ قد سمى الولاية أمانة؛ فقال لأبي ذر رضي الله عنه: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"، وابن تيمية لا يقول هذا ولا يضرب به الأمثلة عبثا، وإنما هو يصور لنا واقعه وما شاع فيه من تولية ذوي القربة، أو غيرهم من ذوي الجاه بالبرطيل ممن لا يصلحون للولاية، وهو الأمر الذي لا بد من إصلاحه.

وإن ابن تيمية وهو يبين حرمة تولية الشخص لأنه طلب الولاية، فإن ذلك محمول عنده في أن الأصل في النهي عن ذلك إنما هو بحق من طلبها ممن ليس أهلا لها من حيث عدم توافر شروطها فيه، وعدم قدرته على القيام بمصالحها، وإلا فابن تيمية لما رأى أن طلب يوسف -عليه السلام- الولاية كان لمصلحة دينية قال: "وليس هو من طلب الولاية المنهي عنه".

إن ابن تيمية لم يؤصل للتعيين في الولايات تأصيلا عقيما مجردا، فلم يترك الولاة حيارى لا يعرفون الصالح للولاية من غيره، بل إنه وضع ضوابط يعرف بها الأصلح للولاية

وابن تيمية وهو ينبه الولاة إلى أداء الأمانة في الولايات لم يكن بالغافل عن واقعه وما يعيشه من اضطرابات على مستوى الدولة والمجتمع أدت إلى انتشار الفساد فيهما، كما أنه لم يكن بالجاهل لما اشتمل عليه شرعنا من رخص تبيح للمكلف العدول عن الأصل لطارئ ينزل به كمرض وسفر ونحو ذلك، ولذا لم يجمد على قاعدته في أن الأصل تعيين الأصلح على الولايات، بل إنه رأى أن ولي الأمر إذا لم يجد الأصلح لتلك الولاية فإنه يترخص فـ"يختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه"، وإن اختلت بعد ذلك أمور الولاية فولي الأمر معذور؛ ذلك أن الله تعالى لم يضيق على خلقه فكما أنه قال لهم: {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} قال لهم أيضا: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وصح عن نبينا ﷺ أنه قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهذا الذي يجب على ولاة الأمور إن لم يستطيعوا تحقيق أعلى المصالح أن يسعوا لتحقيق ما يمكن تحقيقه منها قدر المستطاع، وإذا ما اجتمعت عليهم المصالح والمفاسد فعليهم العمل لتحقيق ما استطاعوا من المصالح، ودرء أعلى المفاسد، وإلا فسد الحال كله، وتعطلت مصالح الخلق، وشريعتنا إنما جاءت لتحقيق مصالح الخلق، ولا يمكن أن تترك الولايات دون قائم عليها لعدم وجود الأصلح لها، وإنما يسعى ولي الأمر لتحقيق مصلحة الخلق في ذلك قدر المستطاع.

ثم إن ابن تيمية لم يؤصل للتعيين في الولايات تأصيلا عقيما مجردا، فلم يترك الولاة حيارى لا يعرفون الصالح للولاية من غيره، بل إنه وضع ضوابط يعرف بها الأصلح للولاية، وذلك بمعرفة أركان الولاية ومقصدها. وأركان الولاية عنده: القوة والأمانة، وقد نص القرآن على ذلك في غير ما آية، منها قوله تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] ، ومقصدها: "إصلاح دين الخلق…، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه؛ وعقوبات المعتدين"، نص عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم"، فلا بد لولاة الأمور أن يستعينوا في الولايات بأهل القوة لتحقيق العدل، وبأهل الأمانة لتحقيق الصدق؛ لأنه بالعدل والصدق تصلح الأحوال كلها، ويتحقق المقصد من الولايات، قال تعالى: {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115].

وأشار ابن تيمية أيضا إلى ضابط مهم يعرف به الأصلح للولاية وهو المحافظة على الصلاة، فمن كان محافظا على أداء صلاته كما أمر الله تعالى كان محافظا على ولايته أيضا، وقد أخذ ذلك ابن تيمية من قول عمر لولاته: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة"، وهذا أمر مشاهد فأكثر الناس محافظة على أعمالهم هم المحافظون على صلاتهم، وأكثر العمال إضاعة لأعمالهم هم الذين يضيعون صلاتهم، والله تعالى يقول: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، ثم قال ابن تيمية: "فإذا أقام المتولي عماد الدين، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات".

ابن تيمية لم يجمد على لزوم تعيين الأصلح بشروطه في الولاية، فإنه لم يجمد أيضا على لزوم توافر ركني الولاية في الشخص الـمولى، بل لقد كان واقعيا في ذلك أيضا مراعيا تحقيق المصالح قدر المستطاع

وقد فهم عمر ذلك عن الصلاة من هدي رسول الله مع عماله، فقد كان رسول الله ﷺ إذا ما ولى شخصا على أمر ما، فإنه كان يأمره بالصلاة، ويؤمره على الصلاة أيضا، وكان إذا ما عاد مريضا يقول: "إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك، ينكأ لك عدوا، أو يمشي لك إلى صلاة".

وكما أن ابن تيمية لم يجمد على لزوم تعيين الأصلح بشروطه في الولاية، فإنه لم يجمد أيضا على لزوم توافر ركني الولاية في الشخص الـمولى، بل لقد كان واقعيا في ذلك أيضا مراعيا تحقيق المصالح قدر المستطاع؛ فقال: "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل…، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة؛ قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها". استنبط ذلك وفهمه -رحمه الله- من سنة رسول الله ﷺ ومن فعل أصحابه رضوان الله عليهم، وهو أن الولاية إن كانت بحاجة إلى القوة قدم القوي على الأمين، وذلك كإمرة الحروب، وإن كانت الولاية بحاجة إلى الأمانة قدم الأمين على القوي، وذلك كالولاية على حفظ الأموال، أو أن يعدد الـمولى بأن يجمع في الولاية بين عدد إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.

ورأى ابن تيمية أن ولي الأمر إذا ما فعل ذلك، فإنه يكون قد أدى الأمانة في الولايات، وقام بالواجب الذي كلفه الله تعالى، وصار "من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله تعالى، وقد روي: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة".

هذا ولم يقف ابن تيمية عند حد الترخص لولاة الأمور في تعيين غير الأصلح في الولاية، بل إنه حضهم -والحال هذه- إلى السعي لإصلاح الأحوال، وتأهيل أولئك الولاة "حتى يكمل في الناس ما لا بد منه في أمور الولايات والإمارات ونحوها"، ويكون بهذا ابن تيمية من أوائل من دعا إلى تأهيل الولاة (الموظفين) بما يعرف في زماننا بالدورات التأهيلية، والمهارات المتنوعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.