شعار قسم مدونات

العبور والثقافة الحضارية (1)

غانا.. بقايا الحضارة العتيقة على ساحل الذهب الجزيرة الوثائقية
لا ينكر أحد أن عجلة التاريخ تشير إلى أن التغيير المجتمعي يبدأ بالأفكار (الجزيرة)

إن الحالة الحضارية للأمة في واقعنا الراهن تواجه العديد من التحديات لكل من رام أن ينقلها من وضعيتها المتكلسة والسلبية إلى وضعية تتسم بالفاعلية والإنتاج كما كانت في سابق عهدها، وكما ترشد إلى ذلك قيمها ونسقها الفكري المنبعث من أصولها.

من أول هذه التحديات سؤال المنهجية المطلوبة للتعامل مع الآخر الحضاري والواقع الذي تهيمن عليه منتجات وأنساق حضارية لم تخرج من رحم هذه الأمة، وقد تناولنا ذلك السؤال من خلال حديثنا عن منهجية "الاستيعاب والتجاوز" في مقالات سابقة.

يأتي بعد ذلك في أعلى سلم التحديات ما يمكن أن نسميه غياب "ثقافة الحضارة"، وهو مصطلح يحمل تأويلات جمة وتناوله العديد من المفكرين بالشرح والتحليل، ولكنا نعني به هنا حالة مجتمعية يكون مثلها الأعلى هو "الإنجاز الحضاري" من خلال وعي بمعني هذا المثل الأعلى وأبعاده، ولم هو مهم وعلى أي أصول يبنى، ثم سعي لهذا الإنجاز بفاعلية زمانية مكانية شاملة للجميع، كل بحسبه، تحرك الحياة نحو عمران إنساني يعكس قيم الاستخلاف التي أرادها الله لهذا الإنسان في هذه الأرض من عبودية وعدل وحرية ورحمة وسلام.

لأفكار هي من توجه الأعمال وتشحذ الهمم، ولكن هذا التوجيه يعتمد على مدى وضوح هذه الأفكار لدى العاملين، وضوحًا يتناسب مع حالهم وواقعهم ويرتبط قدر الإمكان مع ما يعيشون معه يوميًا من أنماط وأدوات ومنتجات حضارية

هذه الأفكار الجليلة المشكلة لهذه الثقافة الحضارية ستظل نخبوية بعيدة المنال عن عموم الأمة ما لم يتم العبور بها من عالمها التجريدي الكلي إلى عالم الأفعال التفصيلية، وإلى عالم المنتجات والأشياء المرتبط بحياة الناس، وهذا العبور هو مكمن التحدي.

لا ينكر أحد أن عجلة التاريخ تشير إلى أن التغيير المجتمعي يبدأ بالأفكار التي عادة ما تخرج من رحم تفاعل عميق طويل بين نخب ومفكري هذه المجتمعات، ولكن التاريخ يشهد أيضًا أن إيصال هذه الأفكار إلى عقول عموم المجتمع ليبلغ كتلته الحرجة الراغبة في التغيير وتنزيل هذه الأفكار على أرض الواقع يحتاج صنفا خاصا من داخل هذه النخبة يستطيع العبور بالأفكار، ويمكن أن نطلق عليهم "رجال المعابر".

هذه المقالات ستحاول أن تسلط الضوء على هؤلاء الأفراد من خلال الإجابة عن أسئلة: من هم رجال المعابر؟ وما خصائصهم؟ وما دورهم أو أدوراهم؟ وأين هم في تاريخ التغيير الحضاري القديم والحديث؟ فلعل هذه الإجابات تشحذ همم هؤلاء الرجال من بيننا أو تساعدنا على العمل لإيجاد وتمكين هؤلاء؛ فإن حالة الثقافة الحضارية لا مناص لها من فعل رجال المعابر ودورهم في ربط الناس بها.

من رجال المعابر؟

لا شك أن الأفكار هي من توجه الأعمال وتشحذ الهمم، ولكن هذا التوجيه يعتمد على مدى وضوح هذه الأفكار لدى العاملين، وضوحًا يتناسب مع حالهم وواقعهم ويرتبط قدر الإمكان مع ما يعيشون معه يوميًا من أنماط وأدوات ومنتجات حضارية؛ فتصير الفكرة لهم أمرًا قابلاً للحياة، مستطاعًا قابلاً للتنفيذ، بل وبهذا الوضوح يتمكن الناس من تطويع وتطوير الأفكار إلى مساحات جزئية فيها من الإنجاز والإبداع ما لم يكن بخاطر منشئ الأفكار ابتداءً.

هذا الوضوح هو نتاج جهد فكري يتجاوز إنشاء وإبداع الفكرة إلى مرحلة من استيعاب أصول هذه الفكرة ومناطها أو مقصودها ثم تصويرها وتنزيلها في كل مجال ولكل طائفة بإجمال ثم تفصيل بما يسمح لأهل هذا المجال الحياتي أو أفراد هذه الطائفة المجتمعية من تبني هذه الأفكار كما أسلفنا وترجمتها إلى فعل متراكم عبر الزمن، متكامل عبر المجالات والقطاعات؛ فينتج عن ذلك ثمرة ومناط ومقصود هذه الفكرة. أهل هذا الجهد الفكري هم رجال المعابر الذين يشتبكون بالفكرة مع الزمان والمكان ليعبروا بها من مقام التجريد إلى مقام التنفيذ ،ومن الكل إلى الجزء، ومن التنظير إلى التخطيط.

لو تخيلنا موجات من هذا العبور منطلقة على التوازي من أصل الفكرة عبر معابر تفصيلية توضيحية لكل مجال ولكل قطاع بما يحدث حراكا عامًا لاستطعنا أن نقترب قليلاً من تصور أمرين مهمين في إطار البعث الحضاري المأمول: أولهما مفهوم الوعي الحضاري، والثاني مفهوم الفعل أو السعي الحضاري.

الوعي والسعي المتوازي في القطاعات المجتمعية المختلفة بعد وضوح الأفكار وعبورها إلى الواقع هو ما يمثل الفاعلية الحضارية التي بها تنتج المجتمعات أفعالها الحضارية في العلوم والفنون والميادين الأخرى

أما الوعي الحضاري في هذا الإطار فإنه بوضوح الفكرة الداعية للإنجاز الحضاري لدى عموم الناس في القطاعات المختلفة تصير مثلا أعلى يتعلق به الجميع ويتبنونه في حركاتهم وأسمارهم أو ينقلونه إلى أولادهم وأهلهم، وتكون هذه الفكرة هي الأرضية العامة التي يلتقي عليها الجهود والرؤى الإصلاحية لدى طوائف المجتمع المختلفة في هذه القطاعات، فتنشأ بيئة حضارية وحالة شبيهة بحالات التحرر الجامعة لوعي الأمم في مسيرتها ضد الاستعمار أو الاحتلال.

أما الفعل والسعي الحضاري فإن عبور الأفكار إلى الواقع الزماني والمكاني لقطاعات المجتمع المختلفة سيؤدي إلى حراك متوازي بين هذه القطاعات في سباق لتمثيل المثل الحضارية العليا لهذه الأفكار ووضع خطط عامة وتفصيلية وذلك على حسب نجاح رجال المعابر في جهدهم لتوضيح وتنزيل الأفكار إلى عالم الناس والأشياء.

إن هذا الوعي والسعي المتوازي في القطاعات المجتمعية المختلفة بعد وضوح الأفكار وعبورها إلى الواقع هو ما يمثل الفاعلية الحضارية التي بها تنتج المجتمعات أفعالها الحضارية في العلوم والفنون والميادين الأخرى، وتسود بها ومعها (أي الفاعلية) ثقافة الحضارة المرجوة، والتي ستدير عجلة النهضة والبعث الحضاري من جيل إلى جيل، فتكون قيم الحضارة هي أحد مقاييس الخير والشر ودلائل الإنجاز والنجاح والتي تتسرب مع الوقت إلى عقائد وتقاليد وأعراف المجتمع وهي حالة أطلق عليها من قبل فيلسوف الحضارة مالك بن نبي مسمى "توجيه العمل" في عملية التثقيف الحضاري.

من الممكن تصور هذه العملية الكلية من أول إنشاء الأفكار المحركة للبعث الحضاري ثم العبور بها للزمان والمكان الواقعي لتشكيل حالة من الثقافة للبعث الحضاري ثم العبور بها للزمان والمكان لتتشكل حالة من الثقافة الحضارية في قطاعات المجتمع والتي ستؤدي إلى الإنتاج والفعل الحضاري، ومن الممكن تصورها كعملية ديناميكية كما في الشكل المرفق:

العبور والثقافة الحضارية
العبور والثقافة الحضارية
(الجزيرة)

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.