شعار قسم مدونات

حقيقة مؤشرات السعادة في فنلندا

هلسنكي (فنلندا) بيكسابي
كل سكن في فنلندا يجب أن تكون إلى جانبه حديقة فيها ألعاب للأطفال (بيكسابي)

تشير الإحصاءات التي نشرتها شبكة التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة إلى أن دولة فنلندا تتربع على عرش السعادة في العالم للمرة السادسة على التوالي. الكثير ممن يعيش في فنلندا -ومنهم فنلنديون أبا عن جد- لا يخفون استغرابهم واندهاشهم من هذا التصنيف! وباعتباري أعيش في هذا البلد منذ أكثر من 20 سنة، فإنني أجد أن من الأدق أن نقول إن فنلندا ربما هي الدولة الأقل نكدا وهما وغما في العالم فيما يتعلق بالأمور الحياتية.

لكن أن تكون دون نكد ولا هم في أمور حياتك المادية، لا يعني بالضرورة أنك سعيد. هذا على الأقل مفهوم السعادة في الوجدان العربي. النكد عادة ما يرتبط بالهموم والخوف، سواء المادي المنظور أو الخوف من المستقبل المجهول. أما لماذا تُعدّ فنلندا هي الأقل نكدا وهموما في العالم، فسوف أتجول معكم في رحلة سريعة لنرى بعض الأمثلة التي قد تكون مقنعة لهذا الطرح.

في فنلندا، قدرات المستشفيات العامة التقنية وإمكاناتها أكبر وأفضل من المستشفيات الخاصة، لكن قد تحتاج أن تنتظر مدة طويلة حتى يأتي دورك

في فنلندا، أنت لا تشغل بالك كثيرا بموضوع السكن، فلو لم تكن قادرا على دفع الإيجار وكان لك حق الإقامة والعمل، فستدفع لك الدولة جزءا كبيرا من الإيجار وتساعدك في الجزء المتبقي منه. بمعنى آخر، فإن الدولة ستوفر لك السكن اللائق بغض النظر عن مستوى دخلك أو طبيعة عملك. والسكن الذي توفره لك الدولة يجب أن يكون متوافقا مع الحد الأدنى للسكن الكريم، وبحجم يتناسب مع عدد أفراد أسرتك، وكل سكن يجب أن تكون إلى جانبه حديقة فيها ألعاب للأطفال، وأن يكون ممتازا من الناحية الصحية والنفسية.

إذا لم يكن دخلك عاليا بما فيه الكفاية، فالدولة سوف تساعدك في تكاليف الكهرباء والتدفئة والماء، بل حتى الإنترنت السريع هو من حقوق الإنسان التي توفرها لك الدولة مجانا إذا لم يكن عندك دخل كافٍ.

في فنلندا، ليس من الغريب أن تجد عمارة يقطنها الطبيب والأستاذ الجامعي والطيار والعاطل عن العمل، لأن من يعمل بمرتب عالٍ سوف يدفع إيجار البيت أو أقساطه، والعاطل ستدفع عنه الدولة. وأنت في فنلندا، لا تحتاج أن تفكر كثيرا في مستقبل أبنائك، فكل من يصل منهم إلى سن 18 سنة من العمر يستطيع أن يستقل عنك وستوفر له الدولة السكن والمرتب والدخل المناسبين، وبالتالي فأنت لا تفكر كثيرا في مستقبل أولادك من حيث توفير مساكن لهم أو تزويجهم أو مستقبلهم.

في فنلندا، المستشفيات العامة قدراتها التقنية وإمكاناتها أكبر وأفضل من قدرات المستشفيات الخاصة، لكن قد تحتاج أن تنتظر مدة طويلة حتى يأتيك الدور. فإذا كان الشخص قادرا ماديا فهو يذهب إلى المستشفيات الخاصة فقط من أجل تجنب الانتظار، وإلا فالمستشفى العام أفضل من الخاص.

في فنلندا، لا تحتاج أن تشتري سيارة خصوصا إذا كنت تعيش في المدن الكبرى، فالمواصلات العامة من باصات وقطارات ومترو أنفاق وترام كهربائي دقيقة جدا وموثوقة جدا في المواعيد، إلى درجة أنه لو كان القطار سوف يتأخر دقيقة واحدة فسوف تسمع الإعلان عن هذا التأخير في محطة القطار، وستجد تعديلا في التوقيت بمقدار الدقيقة باللون الأحمر للتحذير.

في فنلندا، إذا شعرت بالظلم أو شعرت بأنهم قد منعوك شيئا ترى أنه من حقك، فلا يوجد أي شيء يمنعك من الشكوى ورفع القضايا ولو كانت على وزير أو ضابط أو حتى الرئيس

في فنلندا، إذا كنت تعمل فسوف يتم اقتطاع جزء كبير من مرتبك للضرائب، فتجد نفسك تدفع ضريبة دخل قد تصل إلى 40% من مرتبك، هذا غير ضريبة المبيعات التي تصل إلى 24%، وبالتالي فأنت في الحقيقة تدفع حوالي نصف مرتبك للضرائب، ومع ذلك فأنت لا تشعر بالغبن لأن ما يؤخذ من الضرائب تجده أمامك في نظافة الطرق ونظافة مياه الشرب ومتابعة كل ما هو في الأسواق من خضروات ومعلبات، لتكون قد خضعت لأدق أنواع التفتيش الصحي ولا تحتوي على مواد كيميائية ضارة ولا فاسدة ولا منتهية الصلاحية. المرتبات في فنلندا متقاربة بسبب الضرائب التصاعدية.

"مياه الحنفية" في فنلندا من أنقى المياه في العالم، ويمكنك أن تشرب منها وأنت مطمئن. الروضة ومدارس الأطفال بدرجة عالية جدا من الكفاءة، ولهذا فإن فنلندا دائما من الدول الأولى في العالم في مستوى التعليم الأساسي، كما أنك لا تحتاج لأن تقلق على أكل أطفالك. كل الأطفال من الروضة وحتى الثانوية العامة يأكلون مجانا في المدارس من طعام بوفيه عالي الجودة والنظافة والتنوع، بل تجد طعاماً خاصاً بالمسلمين وطعاماً خاصاً بالنباتيين وغيرهم، وكأنه أكل فنادق. الطفل والشاب الصغير يحصل على رعاية صحية كاملة ومتكاملة. الدراسة الأساسية والجامعية وحتى الدكتوراه، كلها مجانية للمواطنين ولمن لديهم إقامات في فنلندا.

في فنلندا، الأسواق منتشرة في كل مكان وفي كل قرية حيث تجد كل ما تحتاجه من مأكل وملبس. في فنلندا، حيث ما كنت تعيش في مدينة أو قرية نائية، ستجد كل الخدمات الأساسية موجودة عندك وإلى جنبك. لا تحتاج أن تسافر إلى العاصمة من أجل استخراج شهادة أو إجراء خدمة، بل إذا كان لديك طفل والمدرسة بعيدة عن بيتك فالدولة ملزمة بتعيين سيارة أجرة أو حافلة صغيرة لتوصيله من المدرسة وإليها مجانا.

في فنلندا، إذا شعرت بالظلم أو شعرت بأنهم قد منعوك شيئا ترى أنه من حقك، فلا يوجد أي شيء يمنعك من الشكوى ورفع القضايا ولو كانت على وزير أو ضابط أو حتى الرئيس، بل إذا فقدت أعصابك وشتمت نظام الدولة ورئيسها ففي الغالب لن يحدث لك شيء. حرية التعبير عن الرأي مقدسة هنا ما دمت لا تحض على الكراهية والعنف.

هذه بعض الأمثلة عن الحياة في فنلندا، لكن السؤال: أين هي السعادة؟

عندما تعيش مدة في مثل هذه البيئة، تتعود عليها وتصبح روتينًا واعتيادا، ولن تشعر بأي سعادة استثنائية. نعم، لن تشعر بالهموم والنكد بسبب الاحتياجات الحياتية المادية، لأنها كلها متوفرة لك، لكن ما الذي سيجعلك سعيدا إذا كنت تملك ما ينبغي أو ما من الطبيعي أن تملكه؟ الأشياء التي قد تشعر بالهموم والنكد بسببها كمسلم هي: أطفالك ومستقبلهم الديني والأخلاقي، طبعا إذا كان هذا الموضوع من المواضيع المهمة عندك، وكذلك تفكيرك في أهلك وأحبابك واشتياقك لهم.

غياب حقوقك ثم الحصول عليها يعطيك شعورا وقتيا بالسعادة التي سبقها نكد لغيابها. السعادة الدائمة تكمن في القرب من الله وأن نستشعر نعمة الله علينا

وفي المقابل، عندما أكون في بلدي فهناك كثير من الأحداث تشعرك بالسعادة. المناسبات الاجتماعية السارة وزيارة الأحباب تشعرك بالسعادة. مشاركة الأقارب والأصحاب حتى في أحزانهم ووقوفك إلى جنبهم في ساعات الشدة يعطيك شعوراً بالرضا النفسي والسعادة، بل حصولك على حقوقك يشعرك بالسعادة.

مثلا، تأتي أوقات تختفي فيها أسطوانات الغاز من السوق (نحن في ليبيا من الدول القليلة التي لا توجد فيها بنية تحتية لأنابيب الغاز)، فأضع أسطوانة الغاز الفارغة في السيارة وأبدأ رحلة البحث. ولأن لدي واحدة احتياطية، فلا أكون مهتما كثيرا في أول أسبوعين، لكن بمرور الأيام أبدأ أشعر بالقلق، لأن الاحتياطية ستبدأ في النفاد كذلك، ثم أجد نقطة توزيع يوجد بها أسطوانات غاز وغير مزدحمة، هذا الشعور بالسعادة لن تشعر به في فنلندا.

أخيرا، السعادة الحقيقية والدائمة ليست أبدا في توفر حاجياتك المادية ولا في الحصول على حقوقك. غياب حقوقك ثم الحصول عليها يعطيك شعورا وقتيا بالسعادة التي سبقها نكد لغيابها. السعادة الدائمة تكمن في القرب من الله، وأن نستشعر نعمة الله علينا، يكفي أن يكون لديك قلب خاشع محب لله ولسان رطب دائما بذكر الله ويد سخية تعطي وتساعد في سبيل الله لتعيش لله ومع الله، وعندها سوف نستشعر السعادة الحقيقية والدائمة الموصولة بالآخرة بإذن الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.